القدس: ذاكرة الحجر حين يستيقظ الحلم….بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

القدس ليست مدينةً تُزار، بل طبقةً كثيفة من الزمن تُسكن الروح. هي الذاكرة حين تتجسّد حجراً، والحلم حين يتعلّم المشي على الأدراج العتيقة. كلُّ خطوةٍ فيها ليست انتقالاً في المكان، بل عبورٌ في التاريخ؛ من ظلِّ نبيٍّ إلى همسِ خليفة، ومن صلاةِ راهبٍ إلى تكبيرِ مؤذّن، ومن دمعةِ أمٍّ إلى ابتسامةِ طفلٍ يعرف—غريزياً—أن المدينة لا تُهزم.
حين يقترب المرء من المسجد الأقصى، لا يقترب من معلمٍ معماريّ فحسب، بل من قلبٍ نابضٍ للهوية. هناك، في باحاته الواسعة، يتداخل الزمن كما تتداخل ظلال القباب والأروقة. قبة الصخرة ليست زخرفةً مذهّبة على هيئة هندسية، بل بيانٌ كونيٌّ عن العروج والعلوّ، عن قداسةٍ لا تُختصر في عقيدة، بل تتّسع لتكون وعداً إنسانياً. وحولها، تمتدّ المصاطب كدفاتر حجرية جلس عليها الفقهاء والطلاب، تُعلِّمنا أن المعرفة في القدس كانت دائماً فعلَ جلوسٍ متأنٍّ أمام النصّ والحياة.
في المسجد القبلي، حيث المحراب والمنبر—منبر نور الدين الذي حمله صلاح الدين إلى الأقصى—تتراكم طبقات السياسة والروح، الفتح والمسؤولية، السيف والعدالة. هنا تتذكّر العهدة العمرية لا بوصفها وثيقة تاريخية، بل أخلاق مدينة: أمانٌ للأديان، وحراسةٌ للكرامة، وتوازنٌ دقيق بين القوة والحق.
وحين تخرج من الأقصى، لا تخرج منه حقاً؛ لأن الأبواب تُكمل الحكاية. باب حِطّة يذكّر بالاستغفار بوصفه مدخلاً، وباب الأسباط يفتح على طريق الألم والرجاء معاً، وباب المغاربة—الجريح في ذاكرة المكان—يشهد على محوٍ قسريٍّ لا يمحو الحق، بل يفضحه. أمّا باب العامود، فليس حجراً مهيباً فحسب؛ إنه مسرح المدينة اليوميّ، حيث يتلاقى الباعة، ويصعد الصوت الشعبيّ ليقول إن القدس لا تزال تُنطق نفسها بنفسها.
الأزقّة ليست ممرّات ضيّقة؛ إنها شرايين. عقبة التكيّة وعقبة درويش وزقاق البوس تحرس أسماءها كما تحرس الأسرار. في الأسواق—الباشورة، واللحّامين، وخان الزيت، والعطّارين—تتجاور الروائح كما تتجاور الأديان: بخورٌ يجاور قهوة، وتكبيرٌ يعانق جرساً، ونداءُ بائعٍ يختصر الاقتصاد الشعبيّ بوصفه ثقافة مقاومة.
وحين تسير نحو درب الآلام، ترافق الأحباش والأقباط والأرمن، لا بوصفهم زوّاراً، بل شركاء في ذاكرةٍ واحدة. كنيسة القيامة ليست حجراً للمسيحيين وحدهم؛ إنها درسٌ في التعدّد الذي نجا من القرون. القدس تعلّمك أن القداسة لا تُحتكر، وأن الحجر إذا تشاركته الأرواح صار جسراً لا جداراً.
لكن المدينة، وهي تُفيض قداسةً، لا تُخفي جراحها. الجنود بأحذيتهم الثقيلة يحاولون فرض سرديةٍ على الهواء، والفتية—بابتسامتهم الماكرة—يجيبون بسردية الجسد الحرّ. هنا، تتبدّى المفارقة: القوة تصرخ، والحياة تضحك. البيوت تُهدم، لكن السماء تُستعار غطاءً. الركام يصير سريراً، والنجوم تصير وعداً. الشهداء لا يُرسمون بألوان محدّدة؛ لأنهم يعلّمون اللون كيف يكون معنى، وكيف يصعد الفرح—مفارقةً—مع العروج.
القدس لا تطلب منّا وصفها؛ هي تملي علينا أن نكتبها كتابةً أخلاقية. أن نراها لا كموضوع شجنٍ رومانسيّ، بل كمسؤولية تاريخية. أن نفهم أن الأقصى ليس نقطة نزاعٍ فحسب، بل محور ذاكرةٍ جامعة، وأن ما يحيط به—من أبوابٍ وأزقّةٍ وأسواق—ليس هامشاً، بل متنُ الحكاية.
وحين نختم الوصف، لا نغلق الصفحة. فالقدس وطنٌ يكتبنا بلا انتهاء، ونكتبه باشتهاءٍ لا يخجل من الحلم. هي ذاكرةٌ على أجنحة حلم، وحلمٌ يتدرّب يومياً على الذاكرة، لكي يبقى—رغم كل شيء—مدينةً تُحبّ الحياة، لأنها اختارت أن
تكون.









