كتاب وشعراء

الحنين، والمنفى، والبحث عن الهوية الضائعة في ديوان: “ظل يتيم في حقيبة يدي ” ….بقلم هند زيتوني| سوريا

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

عن دار زمكان في بيروت ظهر ديوان الشاعرة المبدعة إفين حمو ” ظلّ يتيم في حقيبة يدي”، ضمن سلسلة إشراقات التي يشرف عليها الشاعر القدير أدونيس، وجاء الديوان مقسماً لأربعة أقسام، لكنه كان أشبه بأنشودة موسيقية طويلة وتراتيل صوفية متناغمة تعشقها الأذن.
وقبل أن نقرأ الديوان، نشمُّ رائحة الحنين والاغتراب. فالماضي المؤلم ما زال يجثم على صدر اللحظة، بما يحمل من وجع الذاكرة والفقد والألم. فيتعب الروح والجسد، وكأنّ القدر وضعنا في زاوية اللاعودة وأمعن في قتل اللحظات السعيدة.
إفين شاعرة وإنسانة رقيقة غادرت الوطن بحثاً عن مكانٍ آمنٍ بعد أن تعذّرَ البقاء في أرضٍ تشتعل سماؤها وترابها بالنار والموت والفراق. فليس للوداع زمان ولا مكان. فقد هُجرت من أرضها كما هُجّر الملايين من أراضيهم باحثين عن الأمن والأمان.
في هذا الديوان تقدّم الشاعرة إفين حمّو تجربة شعرية فريدة بصوت أنثوي جريء، معجون بالألم والفقد. يقول الأديب رسول حمزاتوف: قبل السفر يحمل المسافر أغنيته فحملها ليس بالشيء الثقيل، أما الشاعرة إفين لم تستطع أن تطوي المدينة لتضعها في حقيبتها، لكنها اكتفت بمنديل جدّها فوضعته في حقيبة اليد. المنديل تحوّل إلى جواز سفر وخارطة الطريق وربّما تعويذةً ضد الغياب. المنديل هو الذاكرة المشبعة برائحة الذكريات الوطن والعائلة.
تقول الشاعرة: في حقيبتي احتفظ بمنديل جدّي/ أحمله دائماً كأنّه خريطة
لكنّه لا يدلني على مكان.
فنحن نسمع صوت الحنين والاشتياق لا عن طريق الصراخ، بل من دموع الأوراق التي لا تُرى. حيث نجدُ الشاعرة أنها تصنع من القصيدة ملاذاً تطوي فيها ملاءات الغربة وآلام المنفى القاسي. فكل الذي تبقى لديها جذور بلا أرض وانتماء بلا وطن.
تستعمل إفين في قصائدها لغة بسيطة، مكثّفة بعيدة عن الزخرفة البلاغية. ونرى أنها تجنح
إلى المفردات المغلفة بالدلالة، مثل: وصية، منديل، ظل، جسد، نهر، رياح.
وكما نشعر بانسيابية الصور الشعرية المبتكرة. والعاطفة الصادقة التي تعرّي هشاشة الروح، ولكنّ اللغة هنا لا تَعِدُ بالخلاص، بل تحاول التحرر من خلال الفقد. تقول الشاعرة في قصيدة وصايا الفجر: أيها العابر من جسدي/ خذ معك ظلّي حين تخرج/ لا طائل لي فيه/ لا أريده أن يذكرني بخفّك المبتل بالهزائم.
فهذا الخطاب الوجودي يأتي مفتوحاً على التأويل فلا نعرف هنا ما هو العابر؟ هل هو الحبيب؟ أم الذكريات أو أنه الألم؟ أم أنها كل تلك المفردات؟
الجسد هنا كيان هش، والظلّ عادة هو جزء لا ينفصل عن الذات، ولكنه هنا يحمل إثم الهزيمة، وكأن الفقد هنا وسيلة للتحرر من الألم. حتى الضوء الذي يأتي به الفجر لا يعد بالخلاص وإنما هو لحظة تجلّي قاسية. تقول الشاعرة: أنا امرأة أنكرتها الأرض/ قدماي تتبعان الرياح/ احتاج من ينفخ/ فيّ القوة مرّة واحدة فقط، ثمّ تقول: الزمن طعامٌ ميت/ يتعفّن في أعماق الذاكرة/ أنا مقبرة يفيض منها الليلك/ ولا يتجرأ الضوء على ملامسة أطيافها.
جاءت الصور الشعرية الأخيرة محملة بانزياحات مبتكرة تتكأ على لغة رمزية مشحونة بالحزن والتوتر والخذلان.
والزمن هنا كائن ملوث، فقد مصداقيته ولم يعد يصلح للبقاء. وكأنها تبحث عن زمنٍ آخر لا يجرح ولا يؤرّق الروح والذاكرة، فلا شيء يمحو ذاكرة الخراب واليأس والخوف.
نلاحظ أن القصيدة لا تعتمد على فتح الجرح واستعراض الألم، بل إلى تحويله إلى لغة.
هذا الديوان هو عن الفقد حين يصبح جزءاً من الهوية وعن الشعر حين يصبح بتفاصيله الدقيقة ملاذاً للمقاومة الصامتة والبوح الأنثوي الشفيف. وربّما النجاة ليست نهاية الألم، بل القدرة على التعايش معه دون الغرق في الانكسار. إنه نثرٌ تأملي، يتجاوز البوح الذاتي ديوان كُتب بحبر القلب لمن يجيد قراءة ما بين السطور.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock