بائعة الفل ….قصة قصيرة للكاتبه عواطف حافظ

  • إلى نفس الطريق أعود محملة بأزهارى البيضاء الصغيرة .. ناثرة عبيرها فى كل الأرجاء ولا جديد .. نفس الخطى على نفس الأرض فى رحلة طوافى اليومى .. نفسها تلك الأضواء الكاشفة المبهرة ، نفسها السيارات المسرعة .. نفسها الملامح رغم تغير الوجوه .. نفسه عطر المكان يزيد من روعته إمتزاجه بشذا عبيرى ..
  • وأنا هى .. نفسها تلك الفتاة التى ألفت الخطى يوميا بهذى الطرق ، حتى بدت أسير كالمنوم مغناطيسيا ، أو أن قدماى مبرمجتان لحركة اللف الدائرية المحيطة ببرج القاهرة ، وإعتادت شفتاى ترديد الترنيمة ذاتها دون وعى ، دون انقطاع ..
    فل يا أستاذ ، رسول العشاق ؟ ويداى تمتد تعرف طريقها تلقائيا تجاه كل ثنائى يسير بهذا المكان تقدم لهما أكاليل الزهر الأبيض الصغير المتشابك رسول المحبين ..
    هذى أنا .. جسد مبرمج . أما عقلى ففى واد آخر .. وادى الفل الممتد بعرض السماء ، وأريجه المسافر فى رحلة ملائكية ما بين السماء والأرض ، عقلى سابح فى الملكوت ، لا ينظر للثنائيات بل لا يبصرها ، هو مترقب ، متربص ، يبحث عن فرد وحيد ، فرد لا أعرف ملامحه ، وليس لى تصور لها ، فرد يهدينى ككل النساء عقد من الفل أطوق بع عنقى وأهيم فى رحيقه عمرى ..
    ربما لا أحمل هذا الجمال الصارخ الذى يجذب الشباب إلى .. لكننى جميلة .. هكذا يقولون عنى وهكذا فهمت من نظرات المارة التى تلتهمنى يوميا حين أدور فى مدارى كشمس الشتاء حاملة أزهارى ..
    أصبحت اليوم خبيرة بالوجوه ، وربما بالقلوب أيضا .. فهذا الذى هناك داخل السيارة الفارهة والذى يبتاع منى كلما مر بى كل ما أحمل من أزهار أعلم أنه يهيم عشقا بتلك الجميلة التى بجواره .. أما هى فتعشق حافظة نقوده ..
    وهذان العصفوران تحت الشجرة الضخمة العتيقة والشاهدة مثلى على أسرار المحبين أعرف أنهما خارج هذا المدار ، يرفرفان فى دنيا ليست واقعة فى مجرتنا الكونية ، هى فى الأفق الحريرى البعيد ..
    وهذه الوحيدة المصلوبة على مشارف الوجع منذ أزمنة مرت ، تدقق فى الوجوه المبهمة أعرف أنها تبحث عن شخص وحيد أهداها ذات مساء عقدا من الفل وذهب بكل أمانيها دون وعد بلقاء ..
    أما أنا .. فماذا عنى .. صبية حسناء تبيع الفل للمحبين ، تمنحهم سعادة وقتية ، وتبحث بين العيون الوحيدة عن سعادة دائمة ، تعتقد أنها ستجىء يوما من هنا .. من هذا الطريق ..
    فل يا أستاذ .. رسايل غرام ..
    كم عقدا معك ؟؟
    هكذا جائنى الصوت من خلفى .. 
    أستدرت فإذا به شابا وحيدا وسيما .. يبدو أنه ينتظر فتاته وسيفاجئها بعقد فل يحتضن بعبيره جيدها ..
    معى ما يقرب من اثنين وعشرون عقدا ..
    إذا سأشتريهم جميعا ..
    جميعا ؟؟
    نعم ..
    كم هى محظوظة هكذا تمتمت داخل نفسى ..
    هم لك ..
    قلتها وأنا أحسد تلك التى لا أعرفها ولكنى أعرف كيف ستكون ملامحها حين تتزين بكل هذه الزهور فى حضرة هذا الرقيق الوسيم ..
    وبرفق تناول منى الفل ومنحنى ثمنه .. وتسمرت حين رأيته يقربهم من وجهه المضىء ، يشتم عبيرهم مغمضا عينيه وبرفق وردة يقبلهم ..
    خجلت وتلكأت فى خطوتى وهممت بالإستدارة ، لكنه باغتنى .. انتظرى .. فانتظرت واستدرت ..
    فإذا به يلبسنى عقود الفل عقدا عقدا .. وأنا شاردة ، قدماى على الأرض لكننى هناك ، أرفرف فوق السماء التاسعة .. ليته لا ينتهى ، ليتنى امتلكت اثنين وعشرون ألفا ..
    وما أن انتهى ، وانتهى الحلم الحريرى ، وهبطت بسحابتى اللؤلؤية إلى الأرض حتى تلفتت حولى ولم أجده .. نظرت شاخصة فى كل الوجوه ، لهثت خلف كل الملامح .. ذابت ملامحه وسط الزحام .. تبخر بين المارة ولم يبق منه سوى ذاك الرحيق الذى طبعه على باقات الزهر الملائكية .. تلك التى أحاط بها عالمى ..
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.