- وكأنما هو قدَر الكائنات الأصغر في الغابة الكونية أن تسلك طريقها في الحياة قفزاً وتَخَفّياً ، وأن تنال نصيبها من الرزق خطفاً ، حتى لا تُدركها السباع الكاسرة ، فتُحبط خطتها في الوجود !
- ولذلك كان قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم القناة خطفاً سريعاً ولطمة مفاجئة للمستعمرين ، لم يكن لهم أن يتلقوها على مهل أو على علم مسبق ، وإلإ كانت الخطة واللطمة كلها قد باءت بالفشل ولاقت مصر ما كان يُمكن أن تلقاه.
- ويشبه ذلك قرار الرئيس السيسي المفاجيء بتطوير القناة ، وما تلا ذلك من قوانين اقتصادية ، فوجئنا بها وفوجيء بها العالم صبيحة المؤتمر الاقتصادي ، عند التوقيع بمقتضاها على اتفاقيات ومذكرات تفاهم.
- وعلى المنوال نفسه كان قرار الرئيس السادات بثورة التصحيح مباغتاً ، ولولا أن كان مباغتاً ، ما كان قد استطاع الإطاحة بخصومه السياسيين المتربصين به سوءاً ، أو”تغدّى” بهم من قبل أن “يتعشُّوا” به – كما كان دائماً يردد منتشياً ومفاخراً بانتصاره عليهم – ، فلما كان قرار العبور ، كان لابد أيضاً من اتباع نفس استراتيچية المباغتة ، وكذا مبادرة السلام التي لم تكن تتحمل كثير حديث أو لغط ، رغم ما أثارته من ارتباك في الرأي العام وفي الوسط الثقافي والسياسي.
- إننا نَمُرّ الآن بنفس ما درجنا عليه ، ويبدو أنه قَدَرنا ، لا بديل لنا عنه.
- النابهون من الناس يتحدثون كثيراً ويجادلون ويعترضون ، وقد يصيبهم من وراء مواقفهم مايُصيبهم ، وأقلُّه الرد عليهم بمقولة «لا صوت يعلو فوق صوت الخطر» ، تلك المقولة التي طالما كانت عُرضة لسخرية كلا من المثقفين والمتثاقفين ، رغم أني لا أرى فيها عيباً مُطلقاً ، حيث أنه لابد في كثير من الأحوال من حشد الجهود والعقول في خط واحد ، التشويش عليه شيء غير مُستحب ، بل قد يكون خطراً ، فنحن لسنا مثل كل الأمم التي عبرت التاريخ إلى برّ الأمان ، ففرغت إلى تحقيق قيم الديمقراطية دون خوف من الفوضى ، وتثبيت قيمة حق الشعوب في المعرفة ، وحرية تداول المعلومات ، دون خوف من استغلال المعلومات أو توظيفها فيما لا يُحمَد عقباه.
- الأقوياء فقط هم مَن بوسعهم أن يمارسوا تلك القيم إلى أقصى حد ، ولكنهم مع ذلك عند شعورهم بأقرب تهديد لأمنهم ، فإنهم سرعان ما ينقلبون على كل تلك القيم ، ولنا في سلوك أوروبا أمام خطر الإرهاب خير دليل.
- إذن فعلينا الانتباه إلى تلك الفرق من حركات “خنافس” السياسة الذين يُروّجون للديمقراطية الغربية ، وسط شعوب تكدح من أجل سدّ الرمق ، فما يَدْعون إليه ليس له محل كبير من الإعراب ، وربما هو محض خداع.
- هذا ما راودني من أفكار عند استماعي إلى خطاب الرئيس السيسي الأخير.
صوت الرجل هاديء كعادته ، ومبتسمٌ ، وواثق ، رغم طوفان الهجوم والتشكيك المُثار من حوله ، يتكلم نصف الكلام ، ويترك نصفه الآخر على هيئة رسائل مشفرة ، لعل من يسمعونه أن يتلقونها “بالمحسوس” ! وهي رسائل تصلح في الوقت نفسه للاستغلال ممن يريدون إشعال مزيد من البلبلة والجدل ، فهو يقول: «عليكم أن تثقوا بالشخص الذي اخترتموه» ! ويقول ما معناه: «كثير من الأشياء تفسدونها بكثرة الكلام» ، وأيضاً : «ليس من المفروض أن أتحدث في أمور كثيرة هكذا على الهواء» ، وفي حزم يشبه الرجاء يقول: «أرجوكم ! لا تتحدثوا في هذا الأمر مرة أخرى» ، وهي عبارة تبدو في ظاهرها رجاءً ، ولكنها تُخفي في باطنها “حَزْما” قد يُخيف أو يردع من يتربص أو يتصيد ! - إنه مرة أخرى قدَر الكائنات والأمم الصغيرة ، أن تُسلم قيادها وأمرها لساستها في الأوقات الحرجة ، خاصة عندما تكون معظم أوقاتها حرجة ، وسط مساحة ضيقة من الكلام أوالفهم الشامل ، لأن الرؤية الشاملة لا تأتي ولا تكتمل جزيئاتها إلا أخيرا ، وفي أحيان كثيرة لا يُمكن الكشف عن كل النوايا في التو واللحظة.
- وليس لأحد أن يتغافل وجود كيان صهيوني مدعوم بكل القوة من أقوى قُوى الأرض ، ومن يُغفل ذلك أو يسخر من وجود المؤامرة فهو في الحقيقة يسخر من نفسه.
- إذن فهناك مساحة بين ما يُعلن وما يُبطن ، بين ما يُقال وما لا يُقال ، بين ما يعرفه الناس وما لا يعرفون.
- تلك المساحة تحتوي على شيء ما : إما أنه خير ، وإما أنه أيضاً خيرٌ بإذن الله تعالى !