يبلغ النقد كل مدى طالما يعمل على الإنشاء والبناء، وينحي جانبا كل قراءة تدعو إلى الإحباط وتصيد الأخطاء، أوالترويج لفكر دون فكر او لشخص دون شخص أو التحيز لقبلية أو عنصرية أو تحزب لقوم دون قوم ضمن وجهات نظر ضيقة، يقدمها من يرون في أنفسهم نقادًا، والنقد منهم براء، وتظهر الحاجة إلى النقد البناء أقصاها، حين يتعلق الأمر بمصير الإنسان أينما عاش على وجه الارض، وإن كان العرب قديمًا يعتزون بانتماءاتهم إلى قبائل أو عشائر معينة، يفخرون بها في كل لحظات حياتهم فنرى الشعر الجاهلي يحمل لكل جماعة سماتها وقيمها، ونراهم في الحرب يتبارون أيهم أكثر عتادا وقوة، وأيهم أرفع نسبا، يبقى المديح والاطراء من أخطر أسباب الفشل والغرور والضلال، ومن باب “وفوق كل ذي عليم”، علينا جميعًا أن نتناول الأمور بالنقد لنذهب بها إلى الصالح العام، نقف على العيوب لنحاول سترها بالحلول، ونقف على الميِّزات فنبرزها بأحسن ما يكون،تحكمنا في كل خطوة لمضوعية وقولة الحق. وإن خلا المجتمع إلا من ” المدلسين باسم النقد”، أو “ماسحي الجوخ”، فاحذروا الغرق. وهنا لا أرى للناقد قيمة بدون النصوص التي يتناولها بالنقد، فلولا الصواب والخطأ لما احتجنا إلى غواص ماهر يقطع الطريق على كل مدعٍ، ويفتح الآفاق لكل ما يجود به البحر في النص من لآليء،وحين نطلق كلمة النص فالإنا نقصد بذلك كل مادة للنقد سواء كانت إنسانًا أو أقوالًا وأفعالًا، طلولًا، أو قوانينَ، علومًا انسانيةًأو تاريخًا لأمم قائمة أو بائدة، ومهما اختلف النقاد الموضوعيون على مسألة ما، فلابد أنه يؤدي اختلافهم إلى وضع الأمور في نصابها، إيجابا، أو تبصيرًا بها، كي يستقيم النص،وليس صاحب النص، والنص هنا هو كل ما يمكن أن تقع أعين الناقد عليه ويلفت انتباهه من حيث القيمة التي تفتح آفاق النقد،أو القيمة التي تحتاج إلى اتقان العمل، وكلاهما حالة بناء،أما ما نراه اليوم في بعض ساحات النقد من سطحية أو مراءاة لصاحب النص ، أو للنص ذاته، “فأولئك ينادون من مكان بعيد”، فالنقد في حقيقيته ما هوإلا تحقيق وتدقيق وغربلة، ويلزم لهذا الأمر عقل واع محايد، وموسوعي، حتى لا يظلم نصًا بجهله بمكنوناته، وأبعاده الثقافية التي تقبع بين السطور، ومن هنا يجب أن نعامل كل ما نتناوله بالنقد سواءً كان شخصًا، أم جماعة،كتابًا أم قصيدة أو قَوْلةً على أنه نص ارتضينا كنقادإعمال فكرنا فيه لنخلص إلى إيجابيات يُحِلْنا إليها النص، أو نحيله نحن إليها، دون تمزيق للورق، أو تشويه لصاحبه،أو اتباعٍ للجاهلية الأولى، فالناقد الحقّ هو باحث وسائح يجوب كل الآفاق بحثًا عن أسرار النص، ليخرج على الناس بما خفي عليهم من دلالات ومفاهيم، أو بما تيسر من وعيه بالنص، وينتظر التقدم المعرفي الكثير مما يخلص إليه النقد لاستكمال لَبِناتِ المجتمع، أو لتحسين أدائها، فالناقد الجيد هو من يراود النص عن مكنونه الثقافي، وكنوزه التي لا بد انها وثيقة العلوم الإنسانية بشكل أو بآخر،عن طريق إزالة الأتربة عن ماهيته ومادة تكوينه، وتعد أي محاولة لهدم نص ما، أو تخريبه، أو تجريفه من معناه، فشل ذريع يلتصق بالناقد وليس بالنص او صاحبه، فماإن يرتضى الناقد بأن يضع قلمه في نص ما، فهو بذلك يقر للنص من حيث المبدأ بمعيار ما من الجودة وهو معيار نسبي بالطبع، وإلا كان العيب في وعي الناقد، فإن خرج إلينا بنص مهتريء فلا يلومن إلا نفسه، إذ أساء الاختيار، وبذا يُخرِجُ هو نفسَه بنفسه من دائرة التحلي بلقب “ناقد”.
والواقع يرصدأن كل أمر يكون عرضة للنقد هو في أصله نص، مغلقًا كان أم مفتوحًا، شخصًا كان أم منتجا مَّقروءا،أو مسموعًا، أو مرئي. وهنا أرى أن قيام النقد بعملية الهدم أو الأحباط أو التقليل أو التدليس في تعامله مع أي من النصوص بدلا من التقويم البناء، يستلزم إنزال أشد العقوبة على مدعيه، فبالنقد نبني ونهدم، وبه تقوم ممالك أو تنحسر أمم، ومن ثم ، تَوَجَّب أن يكون النقد محاكمةً عادلةً خاليةً، من الهوى والمصالح الشخصية. ولا يختلف “التدليس” على النص عن التدليس في لغة “القانون”، بكل ما تحمل هذه الكلمة من قانونية في المعنى . وخلاصة القول، لا يصح في الناقد أن يكون متحزبًا لجهة أو متَّبِعًا لفصيلٍ دون آخر، كما يجب عليه أن يذيقنا آية التحليق في عوالم النصوص إبداعًا إلى إبداع، طالما ارتضى فتح ملف يرى فيه أن له رؤية ناقد.