كان متكئا و بحركة مفاجئة إنتفض و جلس ، ثنى ركبتيه و أسندهما الى وسادة كانت بجانبه و سحب اخرى وضهعا خلفه و أسند اليها ظهره.
لم يرقه ذلك فانحنى قليلا الى الامام مستندا الى أحد مرفقيه رافعا ذقنه بيده … فظهرت كل ملامح وجهه. و كشف لها النور الخافت المنعكس عليها حماسه الكبير و تأثره المبالغ فيه. بدت عيناه أكثر لمعانا. قطب جبينه و ضم شفتيه و رفع حاجبه .. هكذا بدت ملامح وجهه في قمة الاستنفار.
اجتهد كثيرا في تعديل جلسته ، تململ قليلا كأنه يتاكد أنه حقق التوازن. ثم رشقها بنظرة حادة. اتسعت عيناه و تسمرت نظرته اليها كانه يروم تثبيتها امامه حتى توليه كل اهتمامها و تصمت و لا تثير جلبة و بحركة من يده حثها على الالتفات اليه و الاصغاء.
استتب له الامن الان و عم الهدوء و خيم الصمت. توج كل هذه الترتيبات بكلمة كان كثيرا ما يكررها .
” انتظري .. انتظري”.
و هكذا ألجمها عن كل تعليق.
هرمون الأدريالين في تدفق متسارع و بنسبة مرتفعة. طبول الخوف تقرع بقوة داخلها. الخفقات و النبض في نسق متزايد. توترت و استنفرت كل حواسها تهيبا لما سيلقى على مسامعها من كلام و خاصة انه عنون حكايته قائلا: “كانت امرأة …”
تاهت ، اهتزت و انتفضت و تعالى زئير أسد بداخلها معلنا بداية جولة شرسة في حلبة نار الغيرة التى ما ينفك يلقيها فيها فتكتوي بسخاء.
علمت أنها ستشرب حتى الثمالة من ألم لن يسمح لها كبرياءها و اعتدادها بنفسها كامراة مثقفة ان تفصح عنه. فتقاذفتها مطارق الشك وعصفت بها الهواجس و أحست أنها في تلك اللحظة تحقد عليه … هو الذي لا يفتأ يتلف نسيج احتمالها و تحملها لضعفه امام النساء. و هي التى أصابها العمى و لم تعد ترى في الدنيا سواه.
” أوووووف “
بكل تلك الترتيبات زرع في يقينها أن ما سيخبرها به هو من احدى درر تجاربه التي نحتت شخصيته و تركت في نفسه اثرا لم تمحوه كل هذه السنين.
جال في رأسها أكثر من مائة سؤال عن محتوى تلك القصة التي سيخبرها بها. لكنها كانت صبورة و أصغت اليه.
بصوت حكواتي بارع قال لها:”لقد كان في يوم كذا و في شهر كذا و في سنة كذا و بمناسبة كذا” و اطنب في التفاصيل …
قال:”دخلت علينا فخيم الصمت و الكل فاغر فاه … تلبس كذا و تتزين بكذا .. كانت ذات طول فارع …”
و هنا بالذات تمنت لو يتسنى لها فتخنقه و تكتم انفاسه. حنقها يتزايد و هرمون الغضب في تدفق سريع .. لكنها تكبت كل ذلك بداخلها. ما زالت صامدة ..
هو يتحدث و هي تفكر في كم سنتيمترا ستحتاح للكعب العالي .. و تذكرت وجع ساقيها الذي يسببه لها عملها المضني .. و كثرة الوقوف التي جعلتها تعاني ألم الدوالي المقيت و تذكرت طبيبها الذي كلما زارته و شكت له آلامها ، الا و حثها على ضرورة ارتدائها للأحذية الرياضية … قالت في نفسها ، “ساتحمل الالم و ان عذبني. و سأقتني ذلك الحذاء الذي رايته اخر مرة ، كعبه عال كفاية و سيفي بالغرض و ربما سآخذ واحدا اضافيا ايضا .. “
تعود اليه .. ما زال في سكرته ، ثملا يسرد بكل شغف و نبراته تتلون كما دقات قلبه. هكذا خيل اليها ان قلبه يخفق بشدة .. و هنا استيقظ كل الشر الذي في الدنيا و تجمع داخلها. تمنت لو تمد يدها لتخترق صدره و تقتلع قلبه من مكانه و تعتصره بيديها بكل شراسة و تؤلمه كما يؤلمها هو الان …
هو في عالم اخر لم يستفق بعد من سكرته. حنقها يتزايد و هو لا يكف … أردف قائلا:”كان لها حضور مبهر و كانت على قدر من الجمال .. جمال اخاذ ..” بسرعة استرقت نظرة الى صورة لتلك المرأة كانت على احدى صفحات جريدة ، و قالت في داخلها: “هذه جميلة! .. من أين لها الجمال؟ انها عادية .. كم هو بائس! … ممتلئة كثيرا .. طويلة … ماذا يعني؟ “
التفتت اليه و رمقته بنظرة كلها برود و حقد ، و رددت في نفسها:”بائس … بائس .. بائس…”
اصطنعت ابتسامة توهمه انها في بحر من الهدوء و توليه كل اهتمامها.
استرسل قائلا: “قلت لها كذا فقالت لي كذا و طلبت منها كذا فاجابتني بكذا .. “
كان في قمة انفعاله و واصل حديثه.
” ذهبت اليها وقت كذا و ساعة كذا و في مكان كذا و بعثرتني جرأتها … حاولت لاحقا أن أتصل بها و أعرف رأيها في ذلك الحوار الذي أجريته معها و نشرته احدى الصحف … و لم أفلح … ” و هنا اتاها الغيث ليخفف من لهيب نار تشتعل بداخلها … فرحت كثيرا و غزت الشماتة قلبها.
قالت بصمت ” اي محلاها فيك .. تستاهل”
تتخيل نفسها ترفع يدها بأثقل مطرقة في الدنيا و تهوي بها على رأسه ليستفيق … فقط .. ليستفيق. مطرقة ضخمة لكنها لا تؤذي.
” اه!” … استلتها من أعماقها طويلة و حارة. كيف لها أن تؤذيه و هي تحبه و تعشقه بشغف و بجنون. هي لا تريد له الاذى ابدا. هي تريده فقط أن يستفيق. فهو و ان ادعى المزاح و المشاكسة فانه يذبحها بسكين بارد.