قراءة في رسائل إخوان الصّفاء

 

كتب :عبد اللطيف هاني 

” ثمّ اعلم يا أخي بأن النبات متقدم الكون و الوجود على الحيوان بالزمان , لأنّه مادة لها و هو كالوالدة للحيوان و ذلك أنّه يمتص رطوبات الماء و لطائف أجزاء الأرض بعروقه إلى أصوله ثمّ يحيلها إلى ذاته و يجعل من فضائل تلك المواد ورقاً و ثماراً و حبوباً و يتناول الحيوان غذاءً صافياً هنيئاً مريئاً كما تفعل الوالدة بالولد ثمّ اعلم يا أخي أيدك الله و إيانا بروح منه , بأن الحيوان ما هو تام الخلقة كامل الصورة كالتي تنزو و تحبل و ترضع و منها هو ناقص الخلقة كالتي تتكون من العفونات و منها ما هو بين ذلك كالحشرات و الهوام بين ذلك التي تنفذ و تبيض و تحضن و تربي ثمّ أعلم بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق و نقول أيضاً أن حيوان الماء وجوده قبل وجود حيوان البر بزمان لأن الماء قبل التراب و البحر قبل البر في بدء الخلق و اعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولاً , من ذكر و أنثى توالدت و تناسلت و انتشرت في الأرض من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل و النّهار متساويين و الزمان أبداً معتدلاً هناك بين الحرّ و البرد و المواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائماً و هناك أيضاً تكون أبونا آدم أبو البشر و زوجته , ثمّ توالدا و تناسلت أولادهما و امتلأت الأرض منهم سهلاً و جبلاً و براً و بحراً إلى يومنا هذا ” بتصرف

” و هناك أيضاً تكون أبونا آدم أبو البشر و زوجته ” و هذا يعني أن آدم الجسماني لم يعرف الجنّة و أنه ابن الأرض و أمّا السقوط عند الإخوان فهو سقوط آدم الروحاني أي النّفس بمعنّى أن النّفس أو الرّوح هي التي سقطت من الجنّة و حُبست داخل جسم آدم الأرضي و قول إخوان الصّفاء بأن الجسد نشأته أرضيّة قول يذكرنا بما ذهب إليه بعض المؤولين لمعنّى نظرية السقوط من الجنّة , و يمكن تلخيص هذا التأويل بالآتي آدم هو آخر حلقة من حلقة التطور أو آدم هو أول إنسان عاقل مكلف صاحب حضارة و روح و قبله كان هناك بشر يحيون حياة الحيوانات حياة خاليّة من أي ثقافة إنسانيّة إن الإنسان عند إخوان الصّفاء هو أشرف الحيوان لأنّه حيوانُ مميز و ناطق و منتصب و هذا ما يجعل صورته أجل الأشكال و أتمم الصور , و يرى الإخوان أن عملية التطور مستمرة فالبداية كانت بظهور النبات الّذي نشأ من عناصر الأرض ثمّ ظهر الحيوان من النبات و أخيراً كان الإنسان الّذي نشأ عن الحيوان و هذا التطور لا يتوقف هنا و إنّما هو تطور تصاعدي فالإنسان يستمر في تطوره إلى أن يتخلص من الشكل المادي و يصير روحاً و لا يتم ذلك إلاّ بالموت لهذا فرحلة الإنسان على وجه الأرض عند الإخوان هي رحلة البحث عن الخلاص و هذا الخلاص لا يتم إلاّ بعد معرفة النّفس المحبوسة داخل الجسد الأرضي و تحريرها من أسر الطبيعة ” بتصرف

و يورد إخوان الصّفاء في إحدى رسائلهم رداً جميلاً و منطقياً على من ينكر وجود هذه النّفس الّتي لولاها لكان الإنسان كغيره من الحيوانات فيقولون ” أخبرنا أيّها الأخ هل أنت عالم و متيقنٌ بأن مع هذا الجسد الطويل العريض العميق , أعني الجسد المركب من اللحم و العظم و العصب و العروق المؤلف من الأخلاط الأربعة التي هي الدم و البلغم و المرتان التي كلها أجسام أرضية مظلمة غليظة منتنة متغيرة فاسدة جوهراً هو أشرف منه و هو النّفس التي هي جوهرة روحانيّة و هي المحركة لهذا الجسم المدبرة له المظهرة به و منه أفعالها و أقوالها و علومها أو تقول إنه ليس ها هنا شيء آخر غير هذا الجسد المرئي المحسوس , المتغير الفاسد الّذي إذا أصابه حرّ ذاب أو إن أصابه برد جمد و إن نام بطلت حواسه و إن انتبه لا يشعر بوجوده جاهل لا يعلم شيئاً و إن لم يسق جفّ عطشاً و إن لم يطعم ذبل و إن طعم امتلأ من الدم و الصديد و البول و الغائط , كأنّه ربعٌ مجصصٌ ظاهره مملوء من القاذورات باطنه إن مات نتن و إن لم يدفن افتُضح و إن عاش فهو في العذاب و الشقاء

أترى أن الفاعل لهذه الأفعال المحكمة و الصنائع المتفنّنة التي تظهر على أيدي البشر هو هذا الجسد وحده؟ و الناطق بهذه اللغات المتباينة و المتكلم بهذه الأقاويل المختلفة و المخبر عن الأمور المنقضية مع الأزمان الماضية و المستنبط غرائب العلوم من خواص جواهر العدد و أشكال الهندسة و التأليف اللحون , و تشريح الأجساد و تركيب الأفلاك و حساب حركات الكواكب هل هو هذا الجسد وحده؟ أو تنسب هذه العلوم و الأقاويل و الفضائل إلى مزاج الجسد و المزاج عرض من الأعراض و هو أحد الأشياء التي ذكرناها؟ فقد بعُد من الصواب من قال هذا القول و عمي عن معرفة حقائق الأشياء من اعتقد هذا الرأي , و أول غفلةٍ دخلت عليه جهالته بجوهر نفسه و تركه طلب معرفة ذاته

و إن كنت مقراً أيّها الأخ البار الرحيم بأن مع هذا الجسد جوهراً آخر هو أشرف منه و أنّ هذه الأفعال و الأقاويل و العلوم و الفضائل إليه تُنسب و منه تبدو و هو المُظهر من هذا الجسد هذه الأشياء فقد قلت صواباً و أقررت بالحقّ و أنصفت في الجواب فخبّرنا عن هذا الجوهر الشريف , هل يمكن أن يُعرف ما هو؟ و كيف كونه من الجسد؟ باختيار منه أو مضطر أن يكون معه؟ أو هل تعرف أين كان قبل أن يُقرن بهذا الجسد و أين يذهب إذا فارقه؟ أو تقول إنّي لا أدري؟ و هل ترضى من نفسك الجهل بهذا المقدار من العلم أن تقول إن هذا العلم ليس من طاقة الإنسان أن يعلمه و كيف يسوّغ لك هذا القول , و العلماء مقرون أجمع و أنت منهم بأن معرفة الله واجبة على كل عاقل؟ و كيف يستوي للعبد إذاً معرفة ربه و هو لا يعرف نفسه؟ و أنت تعلم أيّها الأخ أن نفس الإنسان أقرب إليه من كلّ قريب فكيف يستوي لك أن تقول لا يمكن أن يعلم الإنسان نفسه و يعلم غيرها من الأشياء البعيدة الغائبة عن حواسه و عقله؟ “

ختاماً لقد وضع الإخوان الأسس الأولى لنظرية التطور و الارتقاء ثمّ إنّهم لم يروا بحيوانية الإنسان كما يفهم العامّة من نظرية التطور و إنّما قالوا بأن الإنسان يتكون من جوهرين جوهر مادي يظهر في الجسد و جوهرٌ روحي متمثل في النّفس التي بينوا لمنكريها دلائل وجودها و أن على الإنسان الفاضل أن يرتقي بنفسه و يهذبها حتّى يصير إنساناً كاملاً و يخرج عن العالم الّذي نشأ منه عالم الحيوان و في هذا القول فكرٌ أخلاقي مميز يهدف إلى الرقي بالإنسان و إلى تحقيق الإنسانيّة الحقّة التي لا تتم إلاّ من خلال الاهتمام بالروح و بالعالم الرمزي الّذي يخلقه الإنسان

 
 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.