تظهر أعمال الفنان التشكيلي السوري المبدع (شبلي سليم) تناظرات واسعة الجدل في مجال السوسيولوجيا البنائية إلى أي ذهنيات الجسد وصراع التشكيل المجتمعي، مما يتسم بالاعمال الفنية من سعة لمفهوم الثقافة من التنوع والتعقيد في الذهنية الجسدية، فذهنية الجسد متصلة بالمجتمعات الإنسانية وفئاته الطبقية، و تتنوع بتنوع صراع ثقافاتها، ويعبر هذا تعدد ذهنية أعضاء الجسد بالتعدد الثقافي، و يعبر عن وجوه متعددة للحياة الإنسانية كما صاغها الفنان من حيث ما يرتبط تعددها بتعدد تشكيل طبقاتها، وموضوعاتها، وتفاوت مداركها في اللغات، والعقائد، والأديان والأخلاق وفي القيم ومُثلها الإنسانية، التي تستنبت “بالنفس/الروح” داخل الجسد البشري، وما تنعكس عليه من ردود فعل تواصلية المعنى، وما ينوب عنه داخل المجتمع من ألية صراع تنظيمي للمجتمع. 

المحاولة في هذه المقالة، التي بين أيدينا، تسليط الضوء على الجسد كظاهرة فنية واجتماعية في صراع التشكيل المجتمعي في آن، وترفض المقاربات الاختزالية التي أخفقت في فهم أهمية سياق الجسد البشري في تشكيل الأنظمة الاجتماعية داخل الفن التشكيلي من وظائف رمزية مهمة المعنى للصراع المجتمعي في التغيير. ومن المعلوم أنّ الأبحاث بشأن ذهنية الجسد تنتمي إلى حقل واسع، وممتد في تخصصات داخل العلوم الإنسانية المختلفة، وله مرجعية إلى مبثق الحضارات الاولى، وتجدد البحث فيها من جديد معمقة إلى النصف الأول من القرن العشرين، وبحكم تخصصنا في علوم الاجتماع السياسي سنلقي بعض الومضات على السياق العام الذي ساهم الفنان التشكيلي السوري المبدع (شبلي سليم) بأعماله في بروز اشارات الاهتمام عن بعض صنوف المحاور المسكوت عنها في التداول، قبل أن نتناول أهم الأفكار والخلاصات الجديدة التي جاء بها الفنان )شبلي سليم)، مع العلم أنّ هذه القراءة لا تعفي القارئ من ضرورة التعامل مباشرة مع اعمال الفنان المتعددة والمتنوعة لاستجلاء تفاصيله سعته الثقافية وتوجهاته بدقة، فمسعانا هو التحفيز والتعريف.
ثم إنّ التأويل والتوظيف لا نهائي، لأنه لا ينصبّ على علامة او موضوع “ذهنية الجسد” بمعطى عزل ما تتعاطي الفكر المهتم نفسه بشكل الزم الغير الإنفعالي، وإنما على توظيف وتجدد الآخر ليكسح التعنت، لان الفنان دوما يحاول أن يفرض نفسه بشكل فعَّال، ما يعني ذلك أنّ نحمل تمكين التوظيف لما قد يجد أمامه معطى صادقا لخامة موضوعات نقدية، لا يلغي المجال خالياً فحسب، وإنما نجدعنده ما أن يخلي المكان الموضوع من أمر إلا ليفرض ذاته من جديد لقراءة جديدة، نجده في ذهنية الجسد فرض ما عليه أن يكتسح الفراغ، أي أن يعلن للصراع تشكيل فني رائع مجددا اجتماعيه الفنية داخل النفس، بابداع على ما سبقه ومن سبقه، هناك “نضال ذهنية الجسد الطبقي” في مستوى الفن علامة دالة. فالأبداع والإشارة لها موقعها التي تتحدّد منطقياً، ولا يكفي لتعرضها إطار حدّها المنطقي؛ ألا ما نجد أن يكفيها “أعماله” بأبراز دقة المنطق لذهنية الجسد وصراع أضداده .
وللذهنيات الجسدية فئات من الأشكال البشرية متفاوتة المعايير والوظائف، وعلى قدر تفاوتها في إدراك مُثل مهامها ووظائها داخل المجتمع، تتفاوت أنعكاس صورها على هيكلها الوظيفي المجتمعي وعطاءه السلوكي في: السلطة، الخلخلة، البناء. إذن، ذهنيات الجسد هي أنعكاس صراعات التشكيل المجتمعي-بشري، وليس داخل ذهنيات لعينات محددة لجسد مجتمعي- حيواني، و بناء هذه الذهنيات، تنتج فئاته الأجتماعية على صورة الأشكال البشرية، وتبرز سمات صراعها على قدر تمايز إدراك صراعها الطبقي الاجتماعي، المتمثلة بذهنية الجسد وطبيعة حركته الثقافية وانشطته، كما هو الحال عند ذهنية جسد الفلاسفة وتخصصاتهم في الفن أوالعلم، ذهنيات جسد أصحاب السلطات العليا المخلصة للقانون وايضا المستبدون منهم، ثم ذهنية الجسد للطبقة الوسطى بفئاتها من رجال الدولة ورجال المال والاعمال والأطباء والمثقفون، والحرفيون والسفسطائيون ..الخ، ثم يأتي ذهنية جسد المستضعفون- أداة التمرد في أسفل القائمة… وما تتوسطهما من تباينات في النفس/الروح مع الذهنية.
أن عمق ماهية ذهنية الجسد الفلسفية والتاريخية، قد جعلت منه أن تتراكم أبحاث كثيرة في موضوعه في إطار علم الاجتماع “ذهنيات الجسد” في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إذ لم يعد من الموسومات الشاذة أو الغريبة والمستهجنة، وذلك في ظل تصاعد اهتمام المعنيين في مجال السوسيولوجيا، وما تتصف به ذهنيات الجسد من أهمية بالغة تعج مع تنامي دور وسائل الإعلام التي تزداد بمواد عن اعلانات الجسد، ومن عروض لعمليات التجميل، وسباق لمبيعات صور الرشاقة واللياقة، وتسويق لطرق تحقيق الإثارة، حتى أصبح الجسد ضمن الثقافة المعاصرة يعكس أهتمامات شخصية غير مسبوقة، سوى عند المتلقي في شتى صنوف الطبقات الاجتماعية ووظائفها، ما جعل يعكس محور صراع رسم رموز ومعاني مختلفة للذهنية، و تتصارع في تشكيلها المجتمعي بحسب طبيعة الطبقة الاجتماعية، ما يجعل منتج وعيها الثقافي والاخلاقي والتربوي والتعليمي المتعدد، يعكس على الجسد صنوفه.
وحين حاولنا إعادة، موضوع القراءة في مجال الفن وعلاقته بصراع التشكيل البنى الأجتماعية والتغيير، التقيت بأعمال الفنان السوري المبدع (شبلي سليم) في استعادة الجسد باعتباره كيانًا فاعلاً في الفن والمجتمع بغض النظر عن العوامل الخارجية التي تسهم في تشكيله بين المجالين، وذلك من خلال الارتكاز على فهم عميق للذهنية الجسدية بالانفتاح على تحليلات علم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم الكلام، وغيرها من التخصصات المعرفية الأخرى التي نقش بها الفنان لوحاته الفنية. وما تناول به التحليل لذهنية الجسد ليس الوقوف عند المدنس والمقموع منه، بل الجسد الذي يُشكل رمزا عن إشكالية الصراع في تشكيل البنية الاجتماعية والاخلاقية، وما شكلته ذهنية الجسد المهان في تحدي ومواجهة للذي لا يعترف بقدسيته إلا حين تغادره النفس/ الروح او تزاح منه.
بمعنى آخر، ذهنية الجسد لم تحدد بأكتفاء وتخريس أصم في “الجسم السليم بالعقل السليم” بل حملها الفنان ذهنية وتركة ثقيلة في صراع على امتداد التاريخ الطويل رغم تباين الاراء حول اللون والعرق والطبقة والثقافة التي ميز خطوطها الفنان وحركاتها، فقد بحثت تلك الاعمال الابداعية تداخل السوسيولوجيا كعلم وفن مع الإنسان بشكله العام والدائم، باعثا تلك العلاقة عن أسرار هذه الذهنية الجسدية، في سياق معايتة ما يمتلكه التاريخ والفلسفة من صراع واراء، أو جماليته في التعبير عنه عبر الفن.
لقد تباينت الاعمال وآراء الفنية والفلسفية حول طبيعة العلاقة بين النفس والجسد والجمال، فأفلاطون في محاورته الفنية حول مسألة دقة جمال الفن إلى النفس في معرض أعماله لمناقشة عشق الجمال من خلال رؤية عشق الجميل، يؤكد خلالها أن النفس غير فانية، بل مكنون جمالي حية دائمة، وذلك لأنها ذاتية الحركة في داخل التشكيل للجسد كما هو لدى الفنان في العمل الفني، وما يطعم الرائي أن كل تشكيل لأعضاء الجسم يستقل الحركة من الداخل كما يستقبلها من الخارج، ليس خالية من وجود النفس وحركتها، وكل ما يتحرك بذاته من تبادل انفعالي هو مصدر حركة كل متحرك آخر يمهده بذهنية ومبدأه هو الاعتراف بصراعه مع الآخر، وبالتالي فإن النفس لا تخضع للكون ولا للفساد لكنها تبحث عن تكافل علاقات أنتاجها الروحي والجمالي من رغبات وحاجات ضرورية.
ولتقريبنا من جوهر النفس قدم أعمال الفنان أعمال “أفلاطونية بمُثلها” تشبيها للمرأة بالام، فارسة الحنان وجسدها التي تجرها خطوتان لزرقة لون الفضاء، وبما أن الجسد مخلوق من طبيعة ذهنية خيرة في نفوس الانسانية المثلى، فإن التلقي للصورة الذهنية للجسد تعبر عن هذا الرضا للجمال بالنفس عبر ظاهره، ولكن الحمل الشاق للخير في النفوس هو تشكيل صورة البشر الاخلاقي/المُثل ، إذ كانت أحدى اللوحات (الغير معنونة) تشير، وكإن الفنان وجد الآخر فيها خيرا في الجسد عاري ما جعل يواجه ذهنيته في صراعه من الجذور الثقافية وروابط بواطنها المخفية، ولذلك تتعرض حمل النفوس في ذهنية الجسد تحمل صراعات تشكيلي ملامح بشرية كثيرة، للأحباط من وجودها المتغلغل إلى الارض، الا ان روحها تحلق نحو أعماقها في حلمها إلى السماء من العيون الشاهقة إلى السماء، ويستقطب الالوان فيها قيما أفلاطونية، كأن النفس تنزل بألوانها إلى الأرض، وتحل ذهنية أجساد محلها، بعدما فقدت صراطها متعالية في السماء، وعجزت عن إدراك صراعها الارسطي، إلا بذهنية مجتمعية نامية في الصراع. 

أخيرا، تقف وراء اختيارنا هذا أعمال الفنان لهذا الموضوع “ذهنية الجسد وصراع التشكيل المجتمعي” دون غيره من مؤلفاه الفنية التشكيلية لاعتبارات عدة، وهي كما عبَّرنا عنها ضمن دقة والرؤية الجمالية للفنان السوري المبدع (شبلي سليم)، والأهمية التي واجب أن يحظى بها المتلقي من جديد في الفن وعلاقته مع العلوم الانسانية الاخرى، ايضا لنشاط حقل مهم معروف حاليًّا بدراسات علم الاجتماع في ذهنية الجسد، ما وجدنا أنفسنا امام موقف لا ملاذ منه من الأهمية بمكان تسليط الضوء على مصادر ابداع الفنان ونظرته الراهنية لتقدّر أهمية ذهنية الجسد وعلاقته بالصراع لتشكيل النظم الاجتماعية وتغير انماطها الفاعلة في التغيير، وتسعى لتطوير اتجاه نظري واسع اتجاه الذهنية الجسدية يحمل مادية الفن التشكيلي بالجسدية البشرية على محمل الابداع وابناء، ويمكن هنا بالتأكيد الاستفادة من أعمال كل من أعماله المتعددة المشارب بحساسية وجمال الفن والموضوعات الأكثر أهمية في هذا المجال، غير أنّه لا يجب الركون إلي ما ذكرناه بشكل مطلق أو التوقف عندها، بل لابدّ من مواكبة تحليل جديد، يحاكي أصداء المهتمين وفتح النقاشات لأعمال الفنان الراهنة في هذا المجال او غيرها على السواء لمزيد من المعالجات ووسع الثقافت، ويبتغي الكشف عن الأبعاد المتميزة التي نشاهدها بشكل مستمر منذ مدة لبناءه جهد متميز ليس على الجمالية لما هو جسدي بشكل متكامل بل لفتح افاق متجددة عن زوايا متعددة للخوض فيها. وعليه، بما أن أعماله لا تنطوي مشكلة في تغيير مسار الذهنية للجسد، بل على فائض معناه، فائض ذهنية الجسد المتصارع، فهو لا يُعطى للمتلقي سرعة المغادرة من لوحته، إلا ومعه لنفسه متعة للتفكير، وبالأحرى يجعلك تحمل ربطها لغيرها من الاعمال. كلّ هذا يجعل علاقة الذهنية الجسدية ترتبط بغيرها من الاعمال. دوماً، بعلاقة صراع تشكيل مجتمعي للابداع، و زخم فني في كثافة تطلعاته، فتتسع لتكوني مهيأة في ساحة صراع وتحدي من اكتساح الكثافة في الجمال صوب ذهنيتك الروحية وجياشة النفس القلقة.
