كتب :عبد اللطيف هاني
لعل أهم ما يميز قصة حي بن يقظان التفرد في اعتماد الفكرة والابتكار في البناء الفني والبراعة في المعالجة والفعالية في الإيحاء لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية عبر سيرة حي بن يقظان وكيف تمكن بفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية , ليس هناك من القراء والدارسين العرب إلا ويعرف جيدا رواية ابن طفيل حي بن يقظان إنها واحدة من الروايات التي تثير فخر المغالين في النزعة القومية إذ كثيرا ما يذكرون أقوال باحثين رأوا فيه الأصل الذي استعاره دانيال ديفو ليكتب واحدة من أشهر روايات الأدب الغربي روبنسون كروزو ولكن ماذا لو كان النص العربي أعمق كثيرا من مجرد رواية اقتبسها الغرب عنا؟ ماذا لو كان نصا فلسفيا حقيقيا يصل بين زمن ابن طفيل الفكري أو عقلانية اليونان الإنساني وإذا كان عدد الذين قرأوا رواية دانيال ديفو روبنسون كروزو بشتى اللغات في العالم يزيد عشرات الأضعاف عن الذين قرأوا حي بن يقظان لابن طفيل فإن جل الباحثين والمؤرخين يرون أن نص ابن طفيل إنما هو الأصل المباشر ل روبنسون كروزو , إنها أسطورة عربية تروي قصة الطفل “حي” الفتى الذي ولد بلا أبوين ونشأ كنبتة برية قبل أن تتلقفه أمه الغزالة التي فجعت بوليدها فتربيه ثم تموت الغزالة بين يديه وهو يحاول إنقاذها ليبدأ بعدها التفكير منطلقا من حزنه على فقدان أمه الغزالة وينتقل بفطرته من سؤال إلى سؤال في تتحليل عقلي معقد فالكون يمنحنا من الأسئلة أضعاف ما يمنحنا من الأجوبة وابن طفيل لا يقف عند الأسئلة كثيرا إنه يتجه مباشرة نحو الأجوبة الإيمانية حتى يصل للخالق عز وجل إنه يضع الفكرة أمام عينيك على درجة عالية من الوضوح والصراحة ثم يبني عليها أختها حتى يقيم صرحه الفلسفي وأنت لا تملك إما قبولها أو رفضها , يبين ابن طفيل أن ما ألهمه لكتابة رواية حي بن يقظان سؤال أثاره أحد المهتمين “بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء” الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال حول أصل المعرفة الإنسانية ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله ” وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل ” في “حي” هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيدا عن البشر وتدرج في مراحل العمر المختلفة وبنمو عقله التدريجي يبدأ يدرك أنه مختلف تماما عن كل ما يحيط به ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات فهو عار على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل وأدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره فعند موت الغزالة التي ربته يبحث عن السبب لينتهي به المطاف أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها ” الروح ” وبخروجها فارقت الحياة وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائما ما يجد عائقا تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله, فلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى وصل إلى درجات التنوير عند الصوفية المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه حي بن يقظان هو المذهب العقلي لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول , ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام فهناك فكر مستقل عن اللغة واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم
– وضع ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة تؤكد قصة حي بن يقظان أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية
– وهنا يريد ابن طفيل أن يعيد الاعتبار للفلسفة والعقل في لجة الصراع بين العقل والنقل والفلسفة والدين وبعبارة أخرى يريد المصالحة بين الدين والفلسفة والعقل والإيمان ويريد أن يحقق التوافق بينهما في ردّ مستتر يتسم بعبقرية الإجابة عن سؤال العقل والإيمان هذا في نظر الكاتب