أبي يموت حين يتأخّر الصّيف…..نص للكاتبه شيخه حسن حليوي

 

كانَ أبي إذا أقبلَ الصّيف غنّى فريد الأطرش وحضنَ عوده الذي كسره أبوه على رأسه في شبابه. كسر له سِنيْن حينما بكى كطفل من ألم الأسنان. كانت قصصا يفاخر بها حينما يؤدّبنا ويقتل أباهُ مرّتيْن وهو يتحسّر على مجده الضائع.
إذا أقبل الصّيف كان يسحب كرسي القشّ ويجلس على مصطبة الكوخ يتابع معارك الديكة حتّى يسقط أحدها جريحا. ويسقطُ هو ضاحكا. يراهنُ دائما على الأقوى.
يجالس “يودا” جارنا اليهوديّ الكرديّ الذي يكون مضحكا وطيّبا حين يثملُ، وأبي لم يكن يجالسه إلا إذا كان ثملا. يقول إنّه مملّ عندما يكون صاحيا. يسمحُ له أبي أن يُراهن على الديك الأضعف. ويودا الثّمل يصفّق لخسارة ديكه.
في الصّيف كان يصيرُ أبي أكثر ذكاء ولطفا ووسامة. يصبحُ “حْسينِ الْعَلي” سيّد مجالسِ البدو.
يعودُ إلى الكوخ قبل الفجر بقليل، ينامُ حتّى الظهر ويرتّب يومه المقبل بين العود ويودا ومجالس الحكمة وبعض الأغبياء.
كان يؤذّن في رمضان ولا يصوم. يغنّي لفريد الأطرش ولا يحبُّ عبد الحليم. ويحترم أم كلثوم جدّا.
غادر إلى يافا. لم يكن فيها يودا ثملٌ ولا ديكة يُراهنُ عليها. أغاني فريد يدرّب صوته المخنوق عليها ويجد من يصفّق له بعدها. هي فقط من رافقته. خفتُ أن يموت كما مات جدّي الّذي غادر القرية ولم يجد قطيع ماعز يحصي رؤوسه فصار يحصي أيّامه وشتائمه. ومات.
أهملتُ فكرة الموت حينما زرته يوما في المستشفى ورأيته من بعيد يكاد يسقط من الضحك لشجار بين روسيّيْن مدمنيْن على الكحول. سألته: هل تفهم ما يقولانه؟
ضحك: طبعا، هي على كلّ حال أسهل بكثير من لغة الديكة وضحكات يودا. تعلّمت الروسيّة من مجالسة المرضى والمُمرّضات والمرض أيضا.
وكان الجوّ ماطرا وباردا.
ولم يتأخّر الصّيف في يافا أبدا. كان يجلس في ساحة بيته الداخليّة على سرير صار أريكة مجوّفة تحتملُ طول قامته وساعات تأمّله. طمأنتُ قلبي وما عدتُ أزورهُ كثيرا.
ظلّ يُراهن على اثنين يسقطُ أحدهما في النهاية. ثمّ راهن على حياته كلّها. وعلى ضحكة تنبعُ من القلب فخذلتهُ ومات.
مات وكان الجوّ ماطرا وباردا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.