سعيد العبد وزوجته سعيدة، لا أحد يعرف كيف جاءا إلى قبيلتنا المترامية الأطراف، كل ما نعرفه عن سعيد العبد وزوجته سعيدة العبدة وابنهما الوحيد سالم هو ما يحكيه سعيد نفسه، يقول أنهم اختطفوه طفلا من جنوب السودان أو من أي بلد آخر من تلك البلاد المليئة بالأشجار العالية والبحيرات التي ما أن تنتهي واحدة منها حتى تبدأ بحيرة أخرى، والتي يطلقون عليها بلاد الزنج، وجهه أسود شديد اللمعان، وعيناه سوداوان تدوران على محجرين أبيضين تجعل نظرتهما نفاذة، تتقد في ظلام الليل، وتنقّل من بلاده التي لا يعرف عنها شيئا ولا حتى اسمها، من قافلة إلى أخرى، كل تاجر يبيعه للآخر برفقة ناقة محملة بالبخور والزيوت ذات الروائح المعطرة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكرهونه على جمع روث الإبل وحلب لبنها ورعيها في صحراء قفراء لا ينتهي يومها حتى تكون قدماه قد تسلختا من السير على الحجارة الصغيرة المدببة ونباتات العاقول ذات الأشواك الحادة، إلى أن استقر به الحال في بيت عمدتنا، لا أحد يعرف كيف؟ هل اشتروه من أحد التجار أم أنه كان مجرد هدية تهدى، أو ربما كان برفقة ناقة التوابل والبخور والزيوت المعطرة التي كان يعشقها العمدة وتأتيه في صيف كل عام لتكون خزينه السنوي الذي تستخدمه زوجته في إبداع أجمل وأفخر أنواع الطعام الذي لا يطبخه أحد في البلد ولا في البلاد المجاورة.
يقول سعيد أنه كبر وترعرع في بين أفراد هذه القبيلة لا يعرف له بيتا ثابتا، يأكل في البيت الذي يطلبه للخدمة، وكسوته يقدمها له العمدة شخصيا صيفا وشتاء، كلما اشترى لأبنائه وضعه بينهم كما لو كان واحدا من أولاده، وفي أحيان يهدونه ملابس من أي بيت على سبيل الصدقة، وكان هذا يحدث خلال الأعياد بشكل خاص، أما النوم فقد كان ينام في المكان الذي يحل فيه التعب على جسده، إلا أنه اعتاد على النوم خلف البوابة الكبيرة لأنه كان مكلفا بإغلاقها يوميا بعد صلاة العشاء، ويظل خلفها في حال من الاستعداد لفتحها إذا عاد أحد الأفراد من سكان البوابة متأخرا من سفر بعيد، أو بعد تأدية واجب العزاء كما كان يحدث بالنسبة للعمدة، أو لحضور فرح أو مولد أحد أولياء الله الصالحين في قرية مجاورة.
يقول سعيد العبد أنه عندما بلغ سن الشباب أخذه العمدة معه في رحلة شاقة، كان العمدة على حماره الحساوي المعلوف شديد البأس، بسرج ولجام، فيما كان سعيد العبد يسير بخطى واسعة حتى لا يتخلف عن ركب العمدة، وبعد مسافة قطعها الركب للوصول إلى قرية مجاورة على مسافة نصف يوم سيراً على الأقدام، دخلوا القرية على ترحيب من عمدتها، جلس سعيد ليريح قدميه العاريتين، نعم لقد عاش حياته كلها حافيا، مثل كل فلاحي قرى الصعيد في ذلك الوقت، يغرس قدميه في الطين خلال الري، ويسير على الأشواك لرعي الغنم والماعز صيفا، وإن كان قد تميز في الصعود إلى النخيل المتطاول العالي، مما ميزه عن غيره من العاملين في مزرعة العمدة، فأصبح من اختصاصه مراعاة نخيل بيت آل الكاشف بكل فروعه، وهم كثيرون كالجيش الجرار، يصعد النخل حافيا كقرد صغير، أحيانا يصعد بيديه وقدميه العاريتين عندما يكون الأمر متعلقا بجني بعض ثمار البلح، وفي غالب الأحيان يكون متمنطقا بالمطلاع المفتول بحبل من ليف النخل نفسه، مطلاع من صنع يديه، يسند ظهره إليه فيما يعالج تلقيح النخلة بيديه، أو يقطع الجريد في مواسم الخريف لتخليص النخيل من أحمالها الزائدة من سباط البلح والجريد الجاف.
يذكر أن العمدة أخذه في تلك الرحلة المنهكة، دون أن يخبره سببا معقولا لمرافقته، إلا أنه كان معتادا على تنقلات العمدة بين القرى والنجوع المجاورة لحضور عرس أو حفل طهور أو لأداء واجب العزاء، عمله بعد الوصول سحب حمار العمدة والانتظار لحين انتهاء الزيارة، كان الجميع يعرفه، وفي كل بيت يدخله يكرمونه إكراما للعمدة، لكن في تلك المرة ما أن دخلوا مضيفة عمدة البلدة المضيفة حتى طلبوا منه أن يغسل قدميه، وأن يتبع إحدى النساء، كانت سوداء زنجية مثله، ودخلا معا إلى بيت الحريم، اعتقد سعيد العبد في البداية أن المطلوب منه حمل سماط الغداء كالعادة لخدمة العمدة وضيوفه، لكن عند دخوله لاحظ تغامز النساء الجالسات وضحكهن المكتوم، وسألته عجوز هتماء بلا أسنان سؤالا لم يفهمه:
-هل أنت من الخصيان؟
احتار في الإجابة فصمت، وبدت على وجهه علامة عدم الفهم، فأمسكت به العجوز من طرف جلبابه وأجلسته إلى جوارها، وبدأت تتحسس جسده فأصابه الرعب خوفاً من أن تكون ساحرة تريد به الشر، مدت يدها بجرأة إلى ما بين فخذيه، انتفض واقفا، من حيرته طلب كوبا من الماء، ليبلل ريقه الذي جف من هول المفاجأة، لكن طلب الماء لم يكن ليبل هذا الريق الجاف، بل كان محاولة للخروج من الورطة التي أوقعته فيها العجوز، جاءت صبية زنجية بلونه، ملامحها دقيقة، تبرز أسنانها حين تبتسم فتضئ وجهها، كانت تحمل قلة قناوية مبللة بالماء وكوبا من النحاس الأصفر، صبت الماء في الكوب ومدت يدها نحوه، نظر في عينيها فشعر بما يشبه الغياب، أخذ رشفة بصوت مسموع كشهقة، شدته العجوز من كمه وأجلسته إلى جوارها مرة أخرى، خطة الفرار التي رسمها تبخرت مع رشفة الماء وابتسامة الصبية، كررت العجوز سؤالها:
-هل أنت من الخصيان؟
ولما لم تجد منه جوابا مدت يدها ورفعت طرف جلبابه في جرأة أذهلته أكثر فاستسلم، لم يكن عسيرا عليها أن تمد يدها لتمسك بعضوه لأنه لم يكن معتادا على لبس شيء آخر تحت الجلباب، ما بين ابتسامة الصبية وجرأة العجوز غاص سعيد العبد في بئر سحيق، سحبه تيار من العرق البارد إلى عوالم سفلية وآمن أن العجوز سحرت له ولا نجاة له من الهاوية، شعر بالدوار الذي شعر به عندما اختطفوه لأول مرة في بلاد الزنج، لا تزال ذكرى تلك الضربة القاسية على أم رأسه التي فقد بعدها الوعي ليستفيق في بلاد غير بلاده، أفاق ليرى الصحراء تحوطه من كل جانب، ولا أثر لشجرة واحدة من تلك التي كان يستظل تحتها، بل كانت منقذته في كثير من الأحيان هربا من وحوش تعيش بينها، عاد إلى ذاكرته ذلك الخرتيت المتوحش الذي أخرجه من ماء البحيرة وطارده إلى داخل الغابة ولم ينقذه إلا صعوده لأول شجرة عالية وقفت في طريقه، وأمسك بأحد الأفرع والخرتيت يضرب الشجرة ويهزها يمنة ويسرة إلى أن حل التعب بالخرتيت وكاد الرعب يقتل سعيد، أحس بالرعب يعود إليه والعجوز تمسك بعضوه وتشده كمن يريد أن يتأكد من وجوده بشكل طبيعي، صرخ سعيد من قسوة اليد العجفاء، وانطلق صوت العجوز:
-مبروك يا سعيدة، زغرودة يا ستات.
أفاق سعيد على صوت الزغاريد، تلفت حوله بحثا عن الخرتيت الذي طارده، ومد ذراعيه بحثا عن شجرة النجاة فوجد يد سعيدة ممدودة بالكوب النحاسي الأصفر، أمسك به كمن يمسك شجرة النجاة من الخرتيت، وضع الكوب على شفتيه فشعر ببرودة الماء الممزوج بالسكر ونسغ الليمون.
لا أحد يعرف أسم سعيدة الحقيقي، ولكن تعارفت القرية على تسميتها باسم سعيدة تيمنا بالقول السائر: “سعيد لسعيدة”، وهي قبلت هذه التسمية بكرم وكانت تسر كلما ناداها أحد بهذا الاسم، وسعدت أكثر في حياتها الجديدة بالوضع المتميز لهذا الزوج الذي تطلبه القبيلة بل والقبائل المجاورة ليبارك بلح نخيلها كل عام، وهي وضعية مميزة حتى على المزارعين الذين يشقون طوال العام تحت الشمس الحارقة من طلوعها حتى غيابها مقابل كسوة وكيلتين من الذرة.
مع مرور الزمن أصبحت لسعيد العبد مكانة أخرى من صنع تفكيره، فقد قرر أن يكون الحارس على بنات قبيلة آل الكاشف في مواجهة الغرباء، وبدأ في صحبتهن إلى البحر لجلب ماء نهر النيل في جرارهن البلاصية، أو لمرافقتهن إلى أعراس وحفلات طهور تقيمها عائلات أخرى أو بعض أفرع عائلة الكاشف التي بدأت تنتشر خارج البوابة التي ضاقت بتكاثر سكانها، ثم عندما بدأت بعض بنات القبيلة تتزوجن من عرسان من خارج أبناء العمومة والأخوال هداه تفكيره إلى استغلال شهرة حفيدات الكاشف بأن فرض على أي عريس من خارج القبيلة أن يدفع إتاوة لسعيد العبد حتى يحصل على عروسه، فكان يقف أمام غرفة العروس ولا يسمح للعريس بالدخول ما لم يدفع له، يدفع له أي شيء، سعيد العبد لم يفرض مبلغا أو مقابلا محددا، ولكن لا لقاء للعريس بعروسه بلا ثمن إن كان غريبا عن القبيلة.