القرار المفاجئ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسحب جزء كبير من القوات الروسية في سوريا أثار الكثير من علامات الإستفهام، خاصة أن جماعات داعش والنصرة والفتح وغيرها مازالت تسيطر على مساحة واسعة شمال وشرق سوريا، وجيوب حول دمشق والجنوب، فهل أفلت بوتين إنتصارا كان في قبضته؟.
جاء قرار بوتين بعد أيام قليلة من الكلمة الصادمة للرئيس الأمريكي أوباما، والتي جرى تسميتها “عقيدة أوباما”، ووصف فيها بعض أصدقاء أمريكا في المنطقة بأنها “دول جامحة” تحاول امتطاء ظهر الولايات المتحدة لتخوض حروبا دامية لتحقيق أغراضها، وتعرض المنطقة لمخاطر بالغة، معترفا بأنه أخطأ بتأييد التدخل العسكري في ليبيا، والذي كانت له نتائج مروعة.
سرعان ما جاء الرد على أوباما من الرياض وأنقرة، ووجه له الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية الأسبق والسفير السابق في واشنطن كلمة بعنوان “لا سيدي أوباما” قال فيها إننا لا نمتطي ظهور أحد، بل ساعدنا أمريكا اقتصاديا بشراء السندات الحكومية والحرب على الإرهاب، لكنها تمد يدها إلى إيران التي مازالت تسمي أمريكا “الشيطان الأكبر”، كاشفا عن بعض جوانب الخلافات الحادة بين البلدين.
أما أردوغان فكان أكثر انفلاتا في مخاطبة واشنطن، واتهمها بخيانة أصدقائها، منتقدا تخليها عن تركيا في خلافها مع موسكو، وتحالفها مع خصومه الأكراد.
هكذا يبدو أن روسيا نجحت في تحييد الدولتين الأكثر أهمية في الحرب على سوريا، ولم تكتف فقط بمساعدة الجيش السوري والأكراد في السيطرة على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، بل حصلت من أمريكا على تعهدات بمنع تدخل تركيا والسعودية في الحرب السورية، بما يضمن وقف إمدادات الجماعات المسلحة بالمال والسلاح والمقاتلين الجدد.
رأى بوتين أن هذا التوقيت هو المناسب لمغادرة جزئية، ليفتح الباب أمام الحل السياسي في جنيف بعد أن نجحت في تغيير موازين القوى على الأرض، وإحداث شرخ كبير بين الحلفاء، من شأنه أن يزداد اتساعا بتخفيف تواجدها العسكري، الذي يستغله المتشددون داخل أمريكا وأوروبا والمنطقة في الحشد لمواجهة الدب الروسي القادم لهدم نفوذهم، وتغيير موازين القوى العالمية.
سيواصل الجيش السوري تقدمه في الأراضي التي تسيطر عليها جماعتا داعش والنصرة، تحت حماية الطيران السوري وما تبقى من السوخوي الروسية، وبمؤازرة منظومة الدفاع الجوي إس 400 الباقية، في الوقت الذي يضغط فيه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والمبعوث الدولي دي ميستورا على المعارضة السورية للقبول بحل يتضمن وضع دستور جديد يوسع من الضمانات الديمقراطية، مع إجراء اتخابات برلمانية ورئاسية من المتوقع أن يربحها النظام السوري، ويستمر الرئيس الأسد، مع تواجد مؤثر للمعارضة التي عليها أن تبتعد عن الشعارات الإسلامية وتتبنى برنامجا علمانيا، من شأنه أن يقلص نفوذ الجماعات المتطرفة، والتي تشكل رأس الحربة في الحرب السورية، وهو ما سيعيد هيكلة المعارضة السورية، ويكشف عن تناقضاتها، وتبتعد القشرة الليبرالية عن النواة الإسلامية.
لم يعد بالإمكان الإستمرار في استخدام الجماعات التكفيرية لتكون معاول هدم لدول المنطقة، فالتجربة أثبتت أن الآثار الجانبية لهذا الخيار قد تفوق العوائد المشكوك في تحصيلها، وأن الإعتراف بفشل هذا الخيار قادم لا محالة، واستمرار الرهان عليه هو إصرار على الحماقة التي لم يعد يحتملها أحد، ولن يكون بمقدور أي طرف أن يستمر في الاستثمارات الخاسرة، وعلى الدول المتورطة أن تسحب ما تبقى من استثماراتها في حروب مروعة لم تحقق أي من أهدافها، بل تعجل بالنهاية التي كانت تخشاها.