قراءة لنص الأديب السوري أحمد اسماعيل
” شيء لم يقرأ ”
مثل هذه النصوص الفلسفية لا بد لها من وقفة عميقة حتى يتخمر النص لإيجاد مدخل يليق به
فكان للميتافيزيقا حيز وجيز كمدخل لقراءته بقلم و حرف متواضعين ، عساني أستطيع قراءة ” طلاسيمه “.
الميتافيزيقا فرع من الفلسفة يتعلق بالطبيعة الأساسية للواقع، ويُسمى أيضًا علم ماوراء الطبيعة. وهو يهدف إلى تقديم وصف منظم للعالم وللمبادئ التي تحكمه. وخلافاً للعلوم الطبيعية التي تدرس مظاهر محددة من العالم، تُعدّ الميتافيزيقا علوماً استقصائية أكثر توسعاً في المظاهر الأساسية للموجودات. ويعتمد علماء الميتافيزيقا على أنماط تحليلية تعتمد بدورها على المنطق الخالص عوضاً عن النهج التجريبي الذي يتبعه علماء الطبيعيات. وقد ركز التكهن الخاص بما وراء الطبيعية، ـ دائما ـ على مفاهيم أساسية كالفضاء والزمن، والسببية، والهوية والتغيير، والاحتمالية والضرورة، والمتفردات والعموميات، والعقل والجسد.
هل تأكدت ؟ مع شيء لم يقرأ
الحال في نصنا ليس فيلسوفا بل قاريء كف و هذا درب من دروب التنجيم و محاولة لقراءة الغيب ، و مع كل حدث يتكرر السؤال ” هل تأكدت ” بطلة النص في صراع من أوله إلى آخره ، أبى الكاتب أن يعطيها اسما ، و لا لباقي الأبطال ، اقتصر على المسميات المجهولة ، الأم ، الوالد ، الإبن ، الزوج ، الأخت و الطيف والمقبرة ، كأن النص بأحداثه لا طريقا يسلكه إلا طريق الفراق و الموت و الوداع الأبدي ، مقاسا على ثوب حزنه الطويل .
تتوالى الأحداث سريعا في حياة إحداهن ، ” نكرة بالنسبة للقاريء ” أحداث على شكل ” صور قديمة صارخة ”
وفاة الأم ، فقدان الحنان
وفاة الأب ، فقدان السند
استشهاد الإبن لحظة دخوله الكلية الحربية ، إغتصاب الفرحة و الفقد الأمر
غرق الزوج ، العائل و حارس أحلامها ” و قضية غرقه تناولها الكاتب في نص سابق ” مقابر الورد ” و الهجرة غير نظامية
فعلا ” ثوب الحزن طويل ” و لا خياط عطف فيه قدر شبر حتى يكون على الأقل قد المقاس ” أيتها الحياة أ يعقل كل ما جرى ” ؟
ينتهي زمن الماضي القريب ، طعمه علقم ” ألبست ، تأملتها ، ارتسمت ، كانت تصارع ، غرق مع الحالمين ، لكن معاناتها تلازمها و مرضها بسبب الغدة الدرقية .
ينعرج بنا الكاتب إلى حاضر قريب و سن اليأس و علاقته بسردية النص ، انتهاء لنشوة الحياة الفعلية و ما ستتعرض له من تقلبات ميزاجية و عصبية و تصبح أكثر اكتئابا .
هذا المنعرج في النص جاء معه ذلك الطيف ، طيف قرأ ذات يوم الغيب من خلال خطوط الكف ، و كل ما قيل حدث بعد رحلة غوص :
_ يعود طيفه…
_ تنظر إلى كفها….
_ يضع كفه فوق كفها…
يبدأ بقراءة كفها…
فهل صدقت القراءة !؟ فقراءة الكف درب من دروب التنجيم
أشار إليها الكاتب ، و تابعت أحداثها البطلة قبل سنة و سنة معاشة و بعد سنة .
الأحداث تتوالى و كل مرة تقف مع أحد الأحداث حد الشرود ” حتى لحظات العمل الذي تنهمك به يخترقها أحيانا و يعتريها الشرود. ”
و يتكرر السؤال الذهني الذي أتعبها جدا ” هل تأكدت”
تقتلها الحيرة ، و كانت هذه الأخيرة وازعا لتستفيق لذاتها المنكسرة و التخلص من هذه ” القراءة و للأسف صحيحة ” لكفها و خطوطه
” الحيرة تكاد تقتلها، أ يتوجب عليها تحرير الأختام التي في كفها و اكتساب طاقة الزوهري النجمي، تقول هامسة لعقلها، لن أقف مكتوفة اليد أمام هذه الأحداث، مازلت أذكر اسم الظل الذي يحدثني بين الحين و الآخر، سأتعلم منه كيف أنزع تلك الأختام،”
عن طاقة الزوهري النجمي قالوا ” :
له قوة الكشف عالية جدا
قوة الرصد و التغلب على شياطين الإنس
التنبؤ بأسرار الكنوز
وسيط روحاني بين عالم الإنس و عالم الجن
صلته بينه و بين الله متينة …
لم يبقى إلا التخلص و التحرر من ” الأختام التي على كفها ” و استبدالها بالنجمة السداسية ”
هذا ما فكرت به بطلة السرد كحل للخروج من المعانات التي تتضاعف مع تقدم الزمن و لم تر مخرجا و لا أمل في آخر النفق .
و تبدأ الرحلة عن الذات ، لكن بعد أن أصبحت هذه الذات خرابا ، كيف ستُرممها يا ترى ؟
سؤال راودني فعلا قبل اتمام قراءة النص ، بالرجوع إلى ما مرت به من أحداث تتفتت لها حصي الجبال ، و حقائق عاشتها من خلال قراءة كف
عالم غريب ، عالم التنجيم ، بين التصديق و التكذيب ، فاصل لابد أن نقف عنده ، ” كذب المنجمون و لو صدقوا ”
و لكن حال سردنا و تكرار السؤال لشيء لم يقرأ ” هل تأكدت ”
هنا الحيرة الكبرى ، رويدا تحققت نبوة القراءة و تتعمق الحيرة ، و يبقى السؤال و لو بالنسبة لي معلقا …
يخال لك أن أحداث النص كُتبت في زمن غير زمننا و البطلة شبه أمية ، إذ انساقت وراء قراءة الكف و ما نسميه ” خزعبلات تنجيم ” لكن البطلة على درجة عالية من العلم ، أولا إرادتها لإنقاذ ذاتها و انتشالها من هذه الأحداث ، و أخيرا إطلاعها على عالم المعلومات و التكنولوجيا حين التجأت إلى ” جوجل ” هامسة لذاتها ” سأبحث في جوجل عن أشياء يجد فيها الإنسان ذاته.
_ غريب هذا العم جوجل لا يغيب عنه شيء، لم تتوقع أن الهوايات نوافذ تعكس الذات. ”
بدأت تنفرج حيرتها و الرجوع من عالم الغيبيات إلى الواقع .
و كيف تختار الصحيح منها .
ليعود هذا الطيف الملقب بالياسمين ،لكنه صوت حقيقي آن له أن يظهر بين القبور ، قبور تسقيها و تضع الورد عليها ،طيف حقيقي صوته ، بين يديه كتاب فائز عنوانه ” الخروج من الموت الرحيم ” هامسا ” هل تأكدت ؟
” من مسافة قريبة أوقفها صوت حقيقي جعلها تلتفت مرغمة،
ليس حلما هو من أيقظ ذاتها بسؤاله هل تأكدت؟”
أحداث سرد من عالم مجهول ، امتزجت أحداثه بين الواقع و الخيال ، لكن طغى عليه الواقع أكثر
فماهي العلاقة بين الأحداث ؟؟
قراءة كف ، صدق النبوة ، محاولة لإنقاذ الذات و اللجوء مرة أخرى إلى عالم الغيبيات ” اكتساب طاقة الزوهري ” ثم استفاقة لنفض هذه التراكمات بطريقة شبه علمية
أما سن اليأس ، لم يكن فعلا حديثا عن وصول البطلة إلى هذه السن بل هو ما وصلت إليه من يأس و إحباط و اضطرابات نفسية لجم الأحداث التي مرت بها ، و كأنها تتخبط في عالم من بحر الظلمات .
السر في ربط الأحداث بكل هذه الحنكة ما هو إلا دليل على براعة الكاتب في السرد و القص
مثل هذه الشخصية كان لها نهاية ” بموت رحيم ” مجرد حقنة و تتخلص من هذه الحياة ، لكن أراد لها الكاتب أن تكون ” سيدة كل مافيها يحمل معنى الجلد و الصلابة. ” و تقف على أحداث دفنتها بين القبور و تسقيها ماءا و تضع عليها زهرا .
طال بها الزمن رغم قصره ” بعد عامين يلفت انتباه من فارقته كتاب ” الخروج إلى الموت الرحيم “.
فعلا هو واقع انتهى إلى الدفن ، واقع كانت تحلم به البطلة أن يكون لونه أبيض كقلب الياسمين ، لكن كان مغشى بالسواد و ثوبه طويل انتهى إلى حزن أبدي لازمها بسؤال ” هل تأكدت ” ، و تكراره في النص أكثر من مرة إلا تأكيدا لأحداث حقيقية في السرد .
و النهاية أخذت من الحزن الطويل نصيبا “ليس حلما هو من أيقظ ذاتها بسؤاله هل تأكدت؟
يجيب على دمعتها التي لم تحتمل الصمود قائلا: الياسمين الذي زرعته بداخلك أنى له أن يموت.
فيتضح جليا مما تقدم ذكره أن الأديب … أخذنا إلى عالم جديد من عوالم أدبه ، غصنا في نص فلسفي بامتياز ، استفزنا بطريقة أنيقة ، و حرف ماتع حد الإنتشاء
النص
شيء لم يقرأ
الرسالة الأخيرة ألبست الكلمات ثوبا طويلا للحزن، كيفما تأملتها ارتسمت معها صور قديمة، صور صارخة تقف عند سؤال واحد ( هل تأكدت؟ )
وفاة أمها التي كانت تصارع المرض، إصابة والدها بالفالج، استشهاد ابنها الذي منحته مباركتها لحظة دخوله الكلية الحربية،
زوجها الذي غرق مع الحالمين بالنور في البحر،
دخولها المتكرر إلى المشفى بسبب قصور الغدة الدرقية التي أدت إلى إصابتها باضطرابات في قلبها و تنفسها.
كيف لشيء أن ينظم قلبها الآن و الأحداث تتالى على رأسها.
أيتها الحياة أ يعقل كل ما يجري؟
غدا ستكمل عامها وتدخل المرحلة الفاصلة ( الخامسة و الأربعون )
_ يعود طيفه…
_ تنظر إلى كفها….
_ يضع كفه فوق كفها…
يبدأ بقراءة كفها…
_ تحاول أن تضعف قدرته على التركيز من خلال إيهامه بعدم مصداقيته.
_ يتأمل وجهها و عينيها كلما أفصح لها بشيء، يتوقف لحظات و هو يتأمل كفها… يتنفس بعمق، ثم يقول يكفي إلى هذا الحد، الباقي غير مهم.
_ شد انتباهها ذاك التنفس العميق، طلبت بإلحاح شديد أن يخبرها بما يخفيه.
_ تحت إصرارها الشديد تابع النظر إلى كفها و أشار إلى هذه السنة، و ماقبلها و مابعدها، و ذكر كل ما يجري معها الآن من أحداث.
كم حذرها من هول المصائب.
من مرض مستعص سيصيب أختها التي تعتبرها ملاذا في لحظات ضعفها، و انتشار وباء بعد كسوف جزئي للشمس يحصد من حولها الأعزاء فردا فردا، و زلزال يكون له دور كبير بصداه و أبعاده على رؤيتها.
_ عليها أن تكون مستعدة منذ الآن، الرسائل القادمة للحياة لن تكتفي فقط عند سؤالها، بل ستنال ما تبقى منه إن لم………
ذاك السؤال الممتلئ بالضجيج ينبعث مع طعامها و شرابها ولحظات فراغها، حتى لحظات العمل الذي تنهمك به يخترقها أحيانا و يعتريها الشرود.
ترحل إلى تلك الرحلة التي جعلتها في شغف لقراءة كفها، بعد رؤية أختها وهي تنبهر بما تسمع عن كفها، فهالة ذاك الذي اجتاح تفكيرها تبدد كل لحظة استغراب تبديها و هو يشير إلى علامات في جسدها رآها من خلال الكف و بعد كل إشارة يسأل هل تأكدت؟
حرف M المتشكل من تقاطع الأرقام في كفها اليمين و اليسار، و الشمعدان و العين الواضحة عند تقاطع خط الحكمة و الحياة و القدر، و الصلبان المنشرة في خط الحياة الطويل، إضافة إلى الشامة التي على ظهرها و صدرها و أماكن أخرى حددها مع تأثيرها، لا شيء غريب….
_ الحيرة تكاد تقتلها، أ يتوجب عليها تحرير الأختام التي في كفها و اكتساب طاقة الزوهري النجمي، تقول هامسة لعقلها، لن أقف مكتوفة اليد أمام هذه الأحداث، مازلت أذكر اسم الظل الذي يحدثني بين الحين و الآخر، سأتعلم منه كيف أنزع تلك الأختام،
لحظة أظن أنه لفت انتباهي حينها لشيء أكبر، أن أبحث عن ذاتي،
لكن أين أجد ذاتي كما أخبرني ذاك العطر المتربع على عرش الألم، لا أظن ما قصده تحرير طاقتي الزوهرية، سأبحث في جوجل عن أشياء يجد فيها الإنسان ذاته.
_ غريب هذا العم جوجل لا يغيب عنه شيء، لم تتوقع أن الهوايات نوافذ تعكس الذات.
لكن هي تمتلك الكثير منها كيف تختار الصحيح بينها؟
_ يهمس في أذنها طيف أكبر عذاباتها ( من لقبته بالياسمين ) قائلا:
اكتبي عن الحب الذي لم تلمسيه بعد أن وأدك فراق كنت السبب فيه،
تصمم…
تمضي…
_ بعد عامين يلفت انتباه من فارقته كتاب ” الخروج إلى الموت الرحيم ” الفائز بجائزة الرواية العربية، يشتري الكتاب ثم يمضي بخطوات سريعة إلى المكان الذي قرأ فيه ذاك الكف، لم يستغرب وجود مقبرة هناك و على تراب كل قبر منها زهور…
تسقيها سيدة كل مافيها يحمل معنى الجلد و الصلابة.
_ من مسافة قريبة أوقفها صوت حقيقي جعلها تلتفت مرغمة،
ليس حلما هو من أيقظ ذاتها بسؤاله هل تأكدت؟
يجيب على دمعتها التي لم تحتمل الصمود قائلا: الياسمين الذي زرعته بداخلك أنى له أن يموت.
أحمد اسماعيل / سورية