أحاسيس كتيرة بتنطلق داخلنا؛ كلما تذكرنا طفولتنا فى القرية، أحاسيس لا يشعر بها إلا من عاش بين أحضان قرى الريف النقية، وخرج من طين هذه الأرض المباركة؛ لذا يروق لي دائما أن أصف أهل الريف بـ”ناس الأرض”.
أفتح عيني فى الصباح الباكر، على قطرات الندى، وهي تغطي أمواج الزرع الأخضر، في طريقي إلى مدرستي، وفي “الغيط” اتلقى النسمات الصباحية، وهي تهب على صفحة الترعة الصغيرة، التي تمر أمام أرضنا، وأشعر بمتعة عجيبة، وأنا استمتع بمنظر البط الأبيض، وهو يسبح على صفحاتها، ويناغىبعضه بعضا، بلغة لا يعرفها إلا ناس الأرض. وأظل أراقب، دون أدنى شعور بالوقت، البط الرمادي، وهو يلعب مستظلا بصديقتي شجرة “شعر البنات”، التي تتهدل فى رفق وحنو، على مياه الترعة، والبط ينفض ريشه من أثر السباحة؛ فتتناثر حبات الماء حوله .
لوحة صنعها الخالق؛ لتنقي أرواحنا، وتجعلنا نتسامح مع الدنيا، حين نرى كيف يوزع الخالق الأرزاق على العباد، والحيوان، والطير، دون حقد، لا حسد بينهم.
ولا أنسى درس أمي الأول لنا: انهضوا مبكرا فالرب يوزع الأرزاق في بداية النهار، وأذكر روائح الزهور التي تخلق داخنا شعورا بميلاد جديد للأرض؛ يبعث في نفوسنا حب الحياة.
علمتنا الأرض أن الحياة مشاركة، حتى مع الطير، والحيوان، ولنا في “أبو قردان”حياة ، وكم كنا نلهو بالسنابل الذهبية، الحبلى بالحبات الصغيرة، فننزع قشرها الأخضر؛ لنأكل حبات القمح الرطب، ونرمي باقي السنبلة للعصافير، والحمام، هكذا حياتنا مشاركة بين الجميع
ومع غروب الشمس، تطفو أصوات الضفادع، لتختلط بأصوات الأغنام، وصياح الديكة، في عزف موسيقي كنا ننفر منه، في البداية، منتظرين الهروب إلى العاصمة، قبل أن نعرف أنها أسفلت بلا حياة، ولا روح، وأن هذه الأصوات التي لا تطربنا، هي لغة الدفء
في ريف أوشك الآن على الانقراض، ليتركنا أسرى برودة العاصمة