كيف يحمل كتاب واحد كل هذه التفاصيل الجذابة بداية من الإسم والغلاف والفكرة؟ في كل مرّة أنتهي من كتاب لعمر طاهر أحدّث نفسي بأنه لا يمكن أن يكتب عمر أفضل، لا يمكن أن يكتب بطريقة أجمل وأقرب وأكثر حميمية، وفي كل مرّة يخذلني عمر طاهر ويأتي بالأجمل والأقرب والأكثر حميمية، أذكر أنني لسنوات طويلة كنت أترقبه من بعيد، أخاف أن أقترب فتضيع هذه الهالة من الغموض بين القارئ والكاتب، حتى قرأت إذاعة الأغاني الصادر حديثًا عن دار الكرمة، فقررت أن أكسر هذا الحاجز، لابد أن أتابعه عن كثب، فهذه التجربة الفريدة في الكتابة الإبداعية الفلسفية خفيفة الظل التي تحافظ على الهوية المصرية، ما بين الشعر والأغاني والمقالات والكتابات الذاتية نهاية بكتاب إذاعة الأغاني الذي هو في سيرة الغناء..في سيرة الأحبة والأهل والسعادة والفقد والزمن، تستحق أن تكون قريبة من عينيك وقلبك. كنت دائمًا من هؤلاء من تسكنهم أغنية، لسبب غير معروف أدندن بها أو تدور في رأسي، حتى يتصادف أحيانًا أن أسمعها تنبعث من مكان ما من شدة سيطرتها علي، عندما تساءل عمر أنه كيف يمكن لواحد أن يدخل أغنية يحبها ليتمشى بها، فهو عبّر تمامًا عن شعوري عندما تتملكني أغنية ما، أنا لست وحدي، هكذا كنت أحدث نفسي مع كل فقرة من الكتاب، مع كل أغنية، مع كل مرّة أضحك فيها بصوت عال أو تغلبني دموعي. في كُتب السير الذاتية غالبًا نشعر أن الكاتب يكتب وحده لنفسه، أننا نطلّع خلسة على أوراقه، إلّا مع عمر طاهر تشعر وكأنه يجلس جوارك يحكيك أنت وحدك، تكاد تسمع نبرة صوته وتتلمس أماكن الهمهمة والضحك والوجع، بهذه البساطة يسرقك للتفاصيل الصغيرة التي تمر عليك وتقف عاجزًا عن التعبير عنها، يمنحك هذا السحر من الحكايات العذبة التي تحرك كل مشاعرك، يجعلك تنتبه لمن حولك، لكلمة قيلت وتصرف مرّ وأغنية إرتبطت بحدث ما دون أن تدري. ولأني من هذا الجيل ما بين منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات، الجيل الذي يعرف السخرية والضحك المُر ولا يعرف القلش والضحك على أشياء لا تضحك مثل الجيل الحالي، الجيل الذي يعاني النوستالجيا وينتشي من سماع أغنية تسعينية خفيفة، فإني أعتبر نفسي أنتمي لكتابات عمر طاهر بشكل خالص، تقسيمة المطربين والأغنيات والذكريات وتركيبة الحياة هي نفسها التي مررت بها دون أن أدرك سر التفاصيل إلا من مثل ما يكتب عمر طاهر. حتى في الأغاني القديمة التي صدرت قبل الثمانينات نختلف في أذوقانا وإختيارتنا عن أجيال التسعينات الذين عادوا لسماع المغنى القديم مع ميلهم لفيروز وأم كلثوم عوضًا عن عبد الحليم وفوزي ونجاة وفايزة. أما أهم ما يميز كتاب إذاعة الأغاني أكثر من أسلوب عمر طاهر المُحبب، هو إختيارته للأغاني المرتبطة بقصة ما، بحدث بسيط عميق تركت الأغنية بصمتها عليه، ولم يطرح أغانيه المفضلة التي يسمعها بقصد، هذه التلقائية في السرد والإختيار منحت النص بهجة وشملته بالإبداع، هذا الإبداع الذي جعلني في أول مرّة أركب سيارتي أتحسسها وأحكي معها وأفهم كثير من المواقف بيننا غابت عني، هذا الإبداع الذي جعلني أتذكر العديد من الأغاني التي مرّت بي وتركت بصمتها ولم أنتبه. كتاب إذاعة الأغاني عمل يجعلك بعد قراءته تتغير. “وان روحت مرّة تزور عش الهوى المهجور سلم على قلبي”