لماذا نجحت هذه المسلسلات؟! بينما سقطت "المهلهلات" الأخرى.: وبينا_ميعاد في الغرفة_207 لتغيير بالطو.. الدراما من وش_وضهر.

كتب :خالد عاشور
قمت بتدريس النقد الفني في أكثر من مكان والقيت محاضرات كثيرة ولقاءات تلفزيونية أكثر عن الدراما والسينما المصرية خلال السنوات السابقة.. صحيح أن الدراما المصرية تعاني من أزمة كبيرة فيما يخص المحتوى والسيناريوهات التي تعرض من خلالها والتي تعودت – بكل أسف – على الأستسهال والتكرار والنمطية في مواضيع بعينها بعيدة عن الواقع المعاش للمجتمع المصري.. وبينما لا زالت.. وستظل ازمة الدراما المصرية مستمرة مع غياب أهل الخبرة على حساب اهل الثقة والشللية وتحكم جهة بعينها في الإنتاج الدرامي نجحت مسلسلات تركت بصمة كبيرة في المجتمع المصري واحدثت عملية افاقة للدراما التي دخلت خلال العشرة سنوات الفائتة العناية المركزة.. المسلسلات التي عرضت نهاية عام 2022 وبداية 2023 كان نجاحها للاسباب التالية:
1- في البدء كانت الكلمة.
سنلاحظ في الأعمال الأربعة التي احدثت صدى كبير ونجاح مبهر من قبل المشاهدين مثل “وش وضهر والغرفة 207 وبينا ميعاد وبالطو” أن السيناريوهات مكتوبة بامتياز هذه اولى أهم دعائم اي عمل درامي ناجح.. سيناريوهات كتبت على مهل وبدقة ودون الوقوع في فخ المط والتقليد والنمطية المعهودة لدى الدراما المصرية من اجترار واعادة تكرار ما تم صنعه مسبقاً.. اضف الى السيناريو الممتاز ان جميع كتاب السيناريو للاعمال الأربعة ابتعدو مكانيا عن القاهرة كمحور تدور فيه احداث قصصهم.. فالعمل الأول يدور في “طنطا” بمحافظة الغربية.. الحوار فيه غاية في التلقائية والطبيعة.. السيناريو لم يغفل اي أي صغيرة او كبيرة في بناءه للشخصيات التي كتبها من حيث المشاعر وردود الفعل والتطور في تغيراتها او انتكاساتها ومن ثم انتصارتها…. فعل هذا مسلسل “الغرفة 207 بابتعاده عن القاهرة واتخذ من مرسى مطروح أحداثاً لحكايته.. ثم يأتي بعده مسلسل بالطو باتخاذ حكايته في محافظة “كفر الشيخ”.. لي هذا فقط.. السيناريو مأخوذ عن رواية مصرية لكاتب السيناريو وهذه ميزة الأعمال السابقة فمثلا “الغرفة 207” مأخوذ عن رواية الدكتور “أحمد خالد توفيق” والتي ابدع فيها السيناريست “تامر إبراهيم” وصنع لنفسه عالما ابداعيا يتفوق على الأصل في سرده.. واعتبر الغرفة 207 هو افضل عمل مأخوذ عن رواية للدكتور أحمد خالد توفيق تم صنعه ويتفوق على سابقة في التجربة “زودياك” و”ما وراء الطبيعة”.
العمل الوحيد الذي ظل في القاهرة وتفوق هو مسلسل “وبينا ميعاد”.. تأتي روعة وتفوق هذا العمل لأن السيناريو من كتابة المخرج نفسه وهو المبدع الأصيل المخرج “هاني كمال”.. أن يكون المخرج هو كاتب السيناريو تجربة تحتاج الى عقل واعي لخطورة التجربة فلم ينجح فيها الكثير لأنها تحتاج حقيقة الى مخرج أولا متفوق في كتابة السيناريو ومن ثم قدرته على نفخ الروح للشخصيات المكتوبة من ورق لتحويلها الى ارواح تتحرك أمام الكاميرا.. نجح في هذه التجربة استاذنا “داود عبد السيد” بامتياز في أفلام “أرض الخوف” و”مواطن ومخبر وحرامي” .. كما يأتي المخرج “رضوان الكاشف” برائعته “عرق البلح” وأستاذنا “شادي عبد السلام في رائعته العظيمة “المومياء”… سينما المؤلف او المؤلف المخرج ليست جديدة فهي بدأت منذ الثلاثينات بداية من “توجو مزراحي” مرورا بالأربعينات وأفلام انور وجدي التي كتبها واخرجها.. سينما المؤلف تحتاج لمخرج مختلف في أدواته.. فأولا يجب ان تتوافر فيه ملكة الكتابة.. ثم ملكة نفخ الروح في كتابته بالكاميرا.. ادوات المخرج الأهم هي الكاميرا.. ولكن قبل الكاميرا تأتي الكلمة.. وقد تفوق المخرج هاني كمال في مسلسله “وبينا ميعاد” ليكتب بيده وعيونه من خلال الكاميرا مكانة كبيرة يستحقها عن جدارة هو كل من سبق ذكرهم في الأعمال الأهم خلال نهاية عام 2022 وبداية عام 2023.
2- الأخراج هو عملية نفخ الروح للسيناريو.
استاذنا صلاح ابو سيف الذي اعتبره إله السينما المصرية والعربية بلا منازع قال في حوار تلفزيوني له ان لغة السينما – أو الدراما – تشبه لغة التي نتحدث بها .. فكما ان اللغة العربية كمثال تتكون من 28 حرف.. فإن لغة السينما والدراما تتكون من ثمانية حروف أولى كلمات الدراما والسينما هي “الصورة” وتحتوي على خمسة أحرف وثاني كلمات لغة الدراما هي “الصوت” ويحتوي على ثلاثة أحرف.. اضيف عليهم من عندي حرفاً تاسعة او كلمة تاسعة وهي “الممثل” .. الممثل المتميز هو من يستطيع ان يتحكم في لغة جسده وعيونه ووجه وان يتعايش بكل ما لديه من موهبة مع الشخصية التي يقوم بأدائها بعد ان يخلع شخصيته الحقيقية ويتبرأ منها على عتبة البلاتوه ولوكيشن التصوير ويتعايش بكل أحساسه مع الشخصية.. حين يصدق الشخصية ويعيشها سيصدقه الناس.. والأهم ان لا يضع كما المسرح حائطاً رابع بينه وبين شخصيته الحقيقة وينساها.. اضف الى ذلك ان يلتزم برؤية المخرج وان يكون هناك روح التعاون بين فريق العمل ذاته.. وكل الأعمال السابقة حدث فيها كل ما سبق لذا توافرت فيها عوامل النجاح بامتياز… فلكل مخرج من المخرجين الأربعة بصمته وتميزه وفصيلة دم خاصة بكاميرته .. فصيلة دم مكونة من “مهندس اضاءة متميز ومصمم ملابس دارس لأبعاد شخصيات العمل ثم مهندس ديكور ذكي ينفخ من ابداعه في روح المكان فينطق كما ينفخ المخرج في الزمان والشخصيات من روحه .. اما الأكثر أهمية فيأتي دور الموسيقى التصويرية فهي أحد أهم علامات التميز.. فاذا كان السيناريو هو رب المسلسل وبداية خلقه.. واذا كان المخرج هو نافخ الروح في الكتابة ليحيلها الى دم ولحم يتحرك بالضاءة والملابس والديكور.. فان الموسيقى هي بمثابة المبنى الذي دهن بالوان مبهرة تشد العين والأذن بعد تأسيسه باعمدة وخرسانة قوية من السيناريو والأخراج.. الموسيقى التصويرية هي “اشارة مرور” تجعلك تتوقف امام العمل ولا تنساه كما لا ينسى قائد السيارة اشارات المرور والوانها وما يعنيه كل لون.. تفوق في الموسيقى التصويرية كل الأعمال السابقة وفي اولهم ومقدمتهم الموسيقى الابداعية التي اراها – وستظل – افضل موسيقى تصويرية لمسلسل وهي الموسيقى التصويرية لمسلسل “الغرفة 207” لأشرف الزفتاوي.. هذا لا يقلل من باقي الموسيقى التصويرية للاعمال الثلاثة الأخرى.. ولكن ما يميز موسيقى الغرفة 207 انها موسيقى تضع الموسيقى التصويرية المصرية في مصاف وقوة الموسيقى العالمية من حيث تناولها لتيمات غاية في الذكاء تعبر عن العمل ذاته أولا وتعبر عن شخوصه واحداثه من حيث استخدام الألات الموسيقية التي برع فيها “اشرف الزفتاوي” دون مجاملة.
3- المنتج حين يكون من اهل الخبرة.. سترى عملا ابداعيا متميز عن منتج من اهل الثقة والمحاسيب.
المنتج يشبه الصرف على تشطيب المبنى النهائي لأي عمل درامي او سينمائي… وحين يكون المنتج من اهل الخبرة ولم يأتي من خلفية أهل الثقة على حساب اهل الخبرة سترى عملا مختلفا يحبه الناس ويظل طويلا في ذاكرة المجتمع الجمعية.. المنتج كما تقوم ببناء عمارة من الحديد المسلح دون ان تبخل عليها في “المونة” و”الخامات” و”الطوب” فلا تقع على رأس سكانها فيما بعد او يتم اختلاس وسرقة من الاسمنت والحديد لصالح أهل الثقة كما حدث ويحدث وسيحدث.. المنتج الذي يأتي من خلفية مهتمة بصناعة الدراما والسينما والفن عموما كالمهندس الدارس للهندسة ويدرك ان قلة الحديد والغش في اعمدة المبنى ستعجل من انهياره.. وان الغش في الأسمنت سيجعل المبنى يتصدع سريعاً .. هكذا الغش في السيناريوهات المختارة وعدم الصرف على الديكور والملابس والأضاءة والموسيقى التصويرية.
جميع الأعمال السابقة تم الصرف عليها انتاجيا لأن ورائها انتاج اهتم بان يخرج عملا بني على اساس صحيح دون غش في السيناريو أو خلطه بـ”رمال” المط والتكراروتقليل أسمنت الحكاية وبناء الشخصيات ونمطيتها ونحتها.. منتج استعان بمخرج بدرجة مهندس يراعي ضميره ويرفض ان يبني عمارته او قصره المسلسل بتهاون.. انت امام مخرجين بدرجة مهندسين كبار في صنعتهم سواء كان “محمد بكير أو مريم ابو عوف وهاني كمال وعمر المهندس” .. الأنتاج في مصر يعاني من غش في مونة الدراما واللجوء الى مقاولي انفار بدرجة مخرجين على حساب مهندسين مهرة من امثال ما سبق ذكرهم.
4- الممثل.. كيف تختار مخلوقات تمثل روح شخوص السيناريو.
الملاحظة الأخيرة في الأعمال التي تركت اثراً كبيرة مع الناس خلال نهاية عام 2022 وبداية 2023 هو اختيار الفنانين الذين شاركوا في الأعمال السابقة.. اختيار الكاستنج أحد أهم عوامل نجاح اي عمل درامي.. والأهم كيف يتخلى النجم عن انانيته والأيجو الذي يتنامي بداخله لحساب الشخصية التي يؤديها ويعمل بروح الفريق مع من معه لحساب العمل أولا قبل حساباته الشخصية متخليا عن غرور الأغلبية من فناني “الكوبي بيست” والايجو والنمبر وان.. تفوق بامتياز في هذا أبطال مسلسل الغرفة 207 وخاصة النجم الفلسطيني “كامل الباشا” الذي اراه يستحق نجم عام 2022 بلا مجاملة.. بالطبع تفوق معه جميع من شارك في العمل تحت قيادة المخرج “محمد بكير” ولكن تفوق الفنان “كامل الباشا” يأتي لاتقانه اللهجة المصرية مختلفا عن ما سبقوه من نجوم عرب لا زالت اللهجة المصرية صعبة عليهم.. اضف الى ذلك ان النجم كمال الباشا أحد اكبر الغاز الغرفة التي زادت العمل رشاقة وتعلقا لدى المشاهد العربي.
أما في وش وضهر فيأتي النجم “اياد نصار وريهام عبد الغفور” في صدارة المشهد بجدارة.. اداء طبيعي وملابس طبيعية وأماكن طبيعية اختارتها “مريم ابو عوف” بذكاء ودقة فخلقت من مسلسلها حالة درامية ستبقى طويلا في ذاكرة الدراما المصرية والعربية.
ثم يأتي المخرج “هاني كمال” ليتفرد بهندسة الحياة.. مهندس الدراما الأجتماعية من حيث السيناريو والتصوير والحبكة.. هاني كمال صنع مجدا فشل فيه غيره ممن يسمون انفسهم مخرجي الدراما الأجتماعية.. رغم ان الأحداث تدور في القاهرة كمكان وزمن حالي الا ان هاني كمال صنع دراما اجتماعية تمس جميع الطبقات المصرية بمنتهى البساطة والذكاء.. مع اختيار غاية في الدقة للنجوم وعلى رأسهم الفنان “صبري فواز”
المخرج الأخير الذي احدث ثورة ليس فقط في عالم الدراما او الكوميديا الؤلمة التي تتماس مع الكوميديا السوداء سواد الواقع والتي حولها الى عمل غاية في البراعة هو المخرج “عمر المهندس” ومسلسه “بالطو” .. عمر المهندس ينطبق عليه جملة شخصية “خالد صالح أو القنصل” من فيلم “ابن القنصل”.. جمالية وروعة فكرة مسلسل “بالطو” على رأي القنصل “سهولتها فى صعوبتها” فرغم بساطة الفكرة وسهولتها.. الا ان تنفيذها هو الأصعب .. الفكرة عادية يمر بها جميع خريجي كليات الطب في بلد تعاني من هجرة الأطباء لسوء المرتبات وندرتهم وعدم تقديرهم من الدولة.. فكيف تناقش موضوعا شائكا كهذا وكيف تناقش معه الفرق بين الأجبار على دراسة شئ لأن مكتب التنسيق دفعك اليه والأهل استخسروا المجموع لتدخل كلية غير مقتنع بها او غير قناعاتك ومواهبك.. كيف يتحكم التنسيق في حياتنا.. كيف تحارب الجهل.. كيف تتحول لأنسان آخر دون ان يصنع منك السيناريو بطلا خارقا من البداية.. سيناريو لأنسان عادي يخاف ويجبن ويبتعد عن الشر ويغني ويرقص له.. غير ان الشر بطبيعته لا يبتعد بالغناء والرقص.. فكان المسلسل راقصا في روعته واخراجه وتمثيله وخفته واختلافه.. وسيظل علامة مهمة في الدرامة المصرية الواعية.
هذه الأسباب التي ذكرتها تجعل من اي عمل فني عملأ يعيش.. بعيدا عن اعمال التنفس الصناعي وسيناريوهات الورق المغشوش او المنحوت والمعاد من مخرجين مقاولي الأنفار والمحسوبيات وشركات توكل اختيار السيناريوهات لمحاسيب جهلة على حساب مبدعين حقيقين من الكتاب لتتحول المسلسلات الدرامية المصرية الى “مهلهلات درامية”.
اتمنى ان يكون موسم رمضان القادم يحتوي على مسلسلات تبقى في عقول الناس.. مبتعدا عن “المهلهلات” والجعجعات البصرية دون سيناريو معتمدا عليها والتي تنتج حالياً.

شاهد أيضاً

فنون تشكيلية ومسرحيات في إفتتاح الملتقى الدولي للإبداع الفني بالرباط

  كتب : علي عليوه   أعاد ملتقى الإبداع الفني الدولي السابع تشكيل ملامح مسرح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: