كبرت دفعة واحدة. (قصة حقيقية)
قبل أن تغادرني سنون البراءة بسنة أو سنتين أو ربما بيوم أو يومين، في الوقت الذي مازال فيه المربي الحكيم، عصى أمي يأكل من ساقيَّ الغضتين الطريتين كلما ارتكبت خطأ يستحق العقاب، رغم محاولاتي تغطيتهما بتنورتي التي ترتفع نحو الركبتين يوما بعد يوم، كنت أراقب طول ساقيَّ والتغيرات التي تحدث لظلي الطويل وهو يمتد صباحا ومساء في الحقول والوديان والجبال التي أقطعها من وإلى المدرسة.
كان يوما من أيام عامي الأول في التعليم المتوسط، في وقت من أوقات الفراغ غادر التلاميذ قاعة الدرس إلى الفناء في انتظار الحصة اللاحقة، بقيت أنا وصديقتي داخل الحجرة فاشتغل رأسي الذي لا يتوقف عن الاشتغال حين وقعت عيني على علبة طبشور من كل الألوان فوق مكتب الأستاذ.
وببراءة الأطفال أخذتها وتقدمت ليس نحو السبورة التي تمتد على طول الحائط الأمامي، بل نحو الجهة المقابلة، حيث الحائط الخلفي للحجرة.
رغم طولي المتسارع في تلك الفترة من عمري، والذي يزيد بسنتمتر أو أكثر كل يوم، كنت بحاجة إلى شيء أصعد فوقه لتجسيد مشروعي الطفولي.
طلبتُ من صديقتي (صليحة) أن تساعدني في جر الطاولة نحو الحائط.
كانت تسألني بإستغراب ماذا ستفعلين (يا طفلة) وأنا أجيبها بكل ثقة انتظري وسترين.
ماهي إلا دقائق حتى اتضح شكل الدجاجة على الحائط ممتدا طولا وعرضا.
أنت رسامة بارعة قالت صديقتي.
تنقصها بعض التفاصيل لتظهر أجمل. قلت أنا.
ولأني أهتم كثيرا بالتفاصيل الجميلة الفارقة، لم أترك ريشة إلا وشكلتها ثم لونتها، حتى كادت الدجاجة تبقبق.
يا إلهي كأنها دجاجة حقيقية: قالت صليحة.
نزلت من فوق الطاولة وعدت إلى الوراء لأرى نتيجة المشروع، انتظري ينقص تفصيل صغير وأنتهي، قلت لصديقتي.
ثم صعدت فوق الطاولة، وبدأت أرسم حبات القمح حبة حبة بطريقة ثلاثية الأبعاد، حتى لكأنها سكبت من كيس فلاح.
كانت صديقتي صليحة الشاهد الوحيد على جريمتي الفنية والمعجب الكبير بتفاصيلها، تزرع في نفسي ثقة كبيرة بموهبتي.
انتهيت من انجاز المشروع بكل فخر نفضت يدي من غبار الطبشور، ثم مسحت الطاولة، وساعدتني صليحة في إعادتها إلى مكانها في الصف.
جلسنا نتبادل حديث الطفولة البريئة. إلى أن حان وقت الدرس، بدأ التلاميذ بالدخول. وبدأت صرخات الدهشة! ماهذا؟! من رسمها؟!
شعور ما دب بداخلي، لم يكن فخرا، ربما هو خوف، ربما خجل، ربما. ربما شعور بالمسؤولية. شعور ما ينسحب وآخر يأخذ مكانه بداخلي، لا أدري. ولا أحد يدري.
لا أحد استوعب متى وكيف ومن رسم هذا. الكل مستغرب ليس هذا وجه الحجرة قبل ساعة.
بعد دقائق، دخل المراقب العام لتسجيل أسماء الحاضرين، ومن هول ما رأى لعلع صوته حتى اهتزت بنا المقاعد: من فعل هذا أخبروني؟!
رد الجميع: لا نعرف سيدي لا نعرف.
حسنا، لا تعرفون! سوف تعاقبون جميعا. كان رأس العصا في يده يتراءى لي كثعبان الكبرى، وقلبي يكاد يسمع نبضه من بعد أمتار وهو يقفز في صدري.
لا، أصمت يا قلبي لا تخف، لا أحد يعرف أنك الفاعل، أما صديقتي صليحة فواثقة أنها لن تشي بي إن لم تفعل أنت. وبأكثر الأصوات براءة قالت حين سألها المراقب -وهو عمها شقيق والدها- لا سيدي أنا لا أعرف من رسمها.
إذن استعدوا للعقاب الجماعي. قال المراقب. واقترب من التلميذ الأول في الطاولة الأولى: هات يدك، لا سيدي لا تضربني لماذا تعاقبني وأنا لست الفاعل؟
ومن الفاعل إذا؟ قال المراقب.
ربيعة سيدي؟ إنها هي. إنها هي. سيدي هي الوحيدة القادرة على الرسم بهذه البراعة. لا أحد منا يحسن الرسم.
توقف قلبي فتوقف الزمن. وتوقف مخي أيضا. كيف لهذا الغبي أن يظهر بهذا الذكاء.
نعم سيدي أنها هي لا أحد في الصف يحسن الرسم مثلها.
قال زميلي وقد صدمني ذكاؤه غير المعهود. فلطالما أشبع ضربا ولم يعترض، إنه أحد أكثر الفاشلين دراسيا ممن عرفتهم في حياتي. لكنه هذه المرة أبى أن يضرب، فاشتعل مخه واتقد ذكاء.
صاح الجميع بعدها. آه نعم صح، هي وحدها القادرة على رسمها.
كنت أراقب ردة فعل المراقب هو يرفض التصديق رغم الإجماع على الرأي، لأنه يعلم أني أعقل التلاميذ.
اتجه نحوي بهدوء صاخب وعصاه تتأهب لالتقاف يدي الصغيرتين النحيلتين، قال: هل أنت حقا من رسمها، تخيلت لسعة الكبرى السامة، ان اعترفت بالحقيقة، فسكتت.
رأز كالأسد، أجيبي هل أنت من رسمها؟ نطقت بسرعة الصوت وقد اخذتي الرجفة: لللللا سيدي.
ثم أردف بسرعة الضوء. أقسمي.
يا الله كيف أقسم وأنا الفاعلة!
أقسمي أنك لست الفاعلة وإلا ستعاقبين.
لم يكن أمامي سوى الاعتراف بجريمتي الكبرى، فليس من طبعي القسم كذبا. نعم سيدي أنا رسمتها. قلتها وأنا احدق في ذلك الزميل وقد غادره شبح العقاب، وبدت على وجهه علامات الانفراج.
هات يدك، قال المراقب، وهو يرفع العصا عاليا، مددتها وأنا أغمض عيني استعدادا لتحمل المسؤولية، وأفتح نصف العين الأخرى كي لا يفوتني المشهد.
وقبل أن يتم ما عزم عليه وحزم انفجر ضحكا، وهو يقول: أخبريني أهذه دجاجة أم جمل؟! وتلك حبات قمح ام حبات بطيخ؟! فتحولت الدراما الى كوميديا منوالضحك.
كيف رسمتها بهذا الحجم وهذه الدقة؟!
لن أضربك لكن سيكون عقابك غسل الحائط بالماء والصابون من الزاوية إلى الزاوية. أكملي درسك واتبعيني إلى الرقابة لاستلام أدوات التنظيف.
لم أصدق أني نجوت من لسعة العصا، ولم أصدق أن هذا الحائط طال كليل امرئ القيس وتمطى بصلبه وأردف اعجازا وناء بكلكل، كأن الدجاجة في لحظات صارت جملا. مازال غسله لا ينتهي؟!.
ما بال آثار الطبشور كأنها نقش من نقوش سيفار، أو ما قبل التاريخ، فهمت بعد ذلك اليوم أنها بقيت لتذكر المراقب العام بفعلتي كلما دخل حجرتنا، ورآها قال لي: أأكلت الدحاجة وحدك ياربيعة وتركت لنا عظامها.
كان ذلك آخر مشهد في طفولتي تعلمت منه معنى كلمة كبرت، موقف كبرت فيه دفعة واحدة، فلم تعد أمي بحاجة إلى المربي الحكيم.
بقلم: أ.د. ربيعة برباق.