حميد وثريا …… بقلم // أحمد الوارث // المغرب

حميد وثريا
صديقي الذي سأرافقه على مدى السنوات الثلاث من السلك الثانوي، قادتني إليهِ حادثة مثيرة، نعم، مثيرة جدا، ما زلت أذكر تفاصيلها جيدا . اسمه حميد ، كان نحيفا، ذا شعر متسخ، هيأته مهملة في البرد كما في الحر، ملامحهُ غابرة ترفضُ رفضا مُطلقا أن تنصاعَ للفرح.
خلال رابع حصة أو التي بعدها، في السنة الرابعة من الاعدادي ، نادى الأستاذ باسمه ليستظهر المحفوظة. وقف التلميذ أمام السبورة، فذكر البيت الأول منها، وظل يردده، دون أن يستطيع الانتقال إلى الذي يليه من الأبيات الشعرية؛ فقد نسيها أو ربما لم يهتم بحفظها، ومن حظه العاثر أن وقع عليه الاختيار للاستظهار.
نهره الأستاذ بشدة وكأنه كان ينتظر الفرصة، ثم سأله:
– أ أنت من أبناء هذه القرية ؟
حين هز رأسه بالإيجاب، اشتد غضب الأستاذ، واسترسل في التأنيب، ثم صرخ في وجهه: قُل لأمك أن تعتني بك قليلا.
بينما نكس التلميذ رأسه، وعاد إلى مكانه مضطربا يتعثر، دون أن ينبس ببنت شفة. لقد كان اليوم مشؤوما حقا، ذاق فيه التلميذ مرار المهانة والمذلة.
عند انتهاء الحصة، بسطتُ يدي على كتفه، وغادرنا المؤسسة سويا. لم أسأله عن أي شيء، ولم يقل لي شيئا. لكني عرفت منه في المساء أنه يتيم الأم، وأن الوضع الأسري هو الذي قذف به إلى ذلك الإهمال.
على هامش هذا الحدث، وقعت وإياه على صك الرفقة، واستمسكت بمواثيق العشرة، لأن روحي ارتاحت إليه. كما صار لي أنيسا في غربتي، وكثيرا ما كان يرافقني إلى غرفتي الصغيرة، نقتسم الأكل والفراش؛ يعانق رجلي، وأعانق رجليه.
بعد شهر وشهر وشهر، وجدتني أقصد وإياه أمكنة لم أكن أرتادها من قبل، فبفضله تعلمت ركوب العجلة الهوائية، ومعه تعلمت العوم في بحيرة النهر المجاور للقرية، وبمؤازرته صار لي مكان قار في فريق الحي لكرة القدم . لكن أكثر ما استهواني هو ركوب العجلة، حتى أني كنت أنتقص من مصروف الأكل، فأقصد مساء كل سبت محلا تُكترى فيه العجلات.
على أن هذه الصلات المستمرة لم تخل من شيطنة، فقد كان حميد يسرق علب السجائر من متجر والده، ويقصدني في مسكني ليدخن بعيدا عن أعين الرقباء، فالتدخين كان سبة في زماننا خصوصا بالنسبة للتلاميذ. أغراني الأمر، ودفعني الفضول لتجربة أول سيجارة في حياتي، أنا الذي كنت أظنني لن أدخن أبدا، خصوصا وأن السيجارة التي كان يدخنها فاخرة، متميزة في شكلها، رائحتها منعشة؛ إنها ثريا أيها المدخنون أيام زمان ، وما أدراك ما ثريا … مهما نسيت فلن أنسى مذاق ومفعول أول مرة، مما جعلني أرغب في تجديد اللقاء مع ثريا… وشيئا فشيئا تعودت عليها ، وصرت أتفنن في مداعبتها ، حتى إذا تأخر صديقي في المجيء ، بادرت للبحث عنه ، فإذا لم يظهر قبل مغرب الشمس، أضطر للبحث عن ثريا بنفسي في عقر دارها دونما وجل؛ أصبحت مدمنا مثله ولمّا أتجاوز القسم النهائي من السلك الإعدادي، حتى إني بدأت أبيع أشياء خاصة بى لأجل السيجارة، مهما كان اسمها .

شاهد أيضاً

يرافقني لغار الصمت دوماً …… شعر // إبراهيم مرعي // لبنان

يرافقني لغار الصمت دوماً نبيُّ الشعر وحيٌ للذهانِ وتتبعني الحمامة عنكبوت وسرب من مجازات المعاني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: