كتب :خالد عاشور
تفصيلة صغيرة تبدو بسيطة طوال أحداث فيلم الزوجة الثانية ركز عليها استاذنا العظيم صلاح ابو سيف في شخصية “العمدة عتمان” الحاكم الظالم.. تفصيلة تبدو انها عابرة لا تذكر ولكنها توضح ان صلاح ابو سيف ليس مخرجا عادياً كمخرجي السبوبة والنحت من الأجيال الجديدة المهتمين بالأبهار البصري على حساب البناء النفسي للشخصية التي يقدمونها.. تلك التفصيلة تأتي من روح الشخصية.. السيناريو يصنع الشخصية من طين الحروف.. أما المخرج فينفخ فيها الروح بالتفاصيل التي يصورها من خلال الكاميرا.
طوال أحداث الفيلم ركز استاذنا صلاح أبو سيف على تلك التفصيلة وهي “السيجارة” التي يدخنها العمدة “عتمان”.. الأهم في السيجارة التي يدخنها العمدة عتمان دائما بشراهة ويسحب دخانها بنهم وقوة أنه لم يطفئ اي سيجارة من سجائره التي يدخنها الا بعد انتهائها تماما “بيشربها لأخر نفس فيها”… من خلال التفصيلة الصغيرة هذه يريد صلاح ابو سيف ان يؤكد على رسالة ان العمدة شخصية جعانة.. “شبع بعد جوع” وربنا يكفيك شر الأنسان اللي تولى سلطة او منصب وشبع بعد جوع.. مهما اخفى أصله بيبان في التفاصيل الصغيرة دي زي ما تعمد عمنا صلاح ابو سيف في تأكيد لزمة “السيجارة” بين اصابع العمدة “عتمان”.. عتمان اللي معظم ثروته ملك زوجته الأولى “حفيظة” .. وباقي ثروته حصل عليها من الجباية وغصب الفلاحين على تركها بالقوة أو بالنصب… تأكيد صلاح ابو سيف طول احداث الفيلم وفي اي مشهد يدخن فيه العظيم “صلاح منصور” على شكل السيجارة وان البطل “العمدة عتمان” مش بس بيشربها بنهم.. ده مش بيتركها من يده الا وهي منتهية تماما دلالة على جوعه القديم وشبعه بعد جوع.. تفوق الفنان العظيم “صلاح منصور” في تأكيد البعد النفسي للشخصية بكل تفاصيلها واهمها طريقته لشرب السيجارة ومسكته لها وطريقة سحبه للدخان منها بنهم وعدم تركها الا منهية تماماً.
من اول الفيلم يمهد لنا المخرج العظيم صلاح ابو سيف الأبعاد النفسية لشخصية العمدة عتمان وبخله من اول لقطة اعتراضه على “دبح” زوجته حفيظة “دكر وز” بعد نصيحة الداية “خالة نظيمة” لها.. ودبح دكر بط.. بعد نصيحة الشيخ مبروك له.. ورد العمدة عتمان “وزة وبطة يا ولية..؟!” .. استفادة وقدرة حاشية الحاكم ومن حوله من مستفيدين ومستشارين – بلغة زماننا – في حلبة لمصلحتهم.. رغم بخله.
ثم في لقطة اخرى تجمع العمدة “الشبعان بعد جوع” ليوضح بخله وجوعه حتى مع زوجته الثانية “فاطمة” المجبرة على الزواج منه بالقوة بعد تطليقها من “أبو العلا” .. “فاطمة” طبخت للعمدة “بط وز وحمام” .. العمدة يأكل بنهم وشراهة.. ونظرات عينيه مركزة على صدر “فاطمة”.. “فاطمة” الفقيرة والجائعة في الحقيقة تقدم له أكبر اجزاء من الطيور المطبوخة.. أما هو حين اراد ان يعطيها جزء من الطيور بحث عن اصغر جزء فيها.. فهو في الأصل جائع رغم كل ما يملكه من مال او اراضي وسلطة.. كل ما يريده العمدة “عتمان” من الفلاحة “فاطمة”.. أو مصر “الرمز” كما يسقط اغلب النقاد علي شخصيتها.. هو الأستمتاع بها وبمفاتنها “ثروتها” وليس فقط ان تأتي له بالولد الذي سيرث الحكم من بعده… على عكس لقطة “أبو العلا” زوجها وهو يهديها أكبر جزء من بعض الفتافيت التي استولت عليها “فاطمة” من بقايا البطة والوزة التي قامت بعمل عشاء لها ولزوجها واطفالها وعزمت الغفير “حسان” ليقاسمهم العشاء.. الزوج هنا يهدي زوجته لأنه يحبها عن جد رأس الطير كأكبر جزء سليم فيه بمحبة خالصة ودون غرض كما فعل الحاكم الظالم “العمدة عتمان”.
تفاصيل تبدو بسيطة.. ولكنها من صلب البعد النفسي للشخصية التي تميز مخرجا عن آخر.. المخرج العبقري هو المخرج الذي يهتم بالتفاصيل… فالروعة تكمن في التفاصيل.




