إمارة فراكسينتوم أسسها عشرون فارسا من أشداء الأندلس وكانوا مع قِلَّة عددهم قد أوتوا جُرْأة خارِقة للعادة، وكان الخوف منهم قد تمكن من القلوب جميعهًا، وكانت مَغاور الجبال مَكامِن لهم، وكانوا يقعدون للمسافرين بالمَراصِد من المَهاوي العميقة، ويتخذون لأنفسهم أبراجًا يعتصمون بها في الشدائد. التحق بهم فرسان آخرون من الأندلس و شمال افريقيا وانضم اليهم حتى بعض مرتزقة أوروبا الباحثين عن الذهب والمجد.
تُعرف تلك الدولة أو الإمارة بـ “إمارة فراكسينتوم” و “فراكسينات Fraxinet”، بجبال الألب في قلب أوروبا النصرانية، أو دولة “جبل القلال” في المصادر العربية؛ حيث يورد الأستاذ محمود شاكر السوري صاحب “التاريخ الإسلامي” في وصفها ما يلي : “دولة أسَّسها المسلمون شمال مارسيليا، وامتدَّت من ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوبًا حتى سويسرا شمالاً، و قد ضمَّت شمال إيطاليا وجنوب شرق فرنسا وأجزاءً من سويسرا، و دامت أيامُها من عام 277 للهجرة و حتى 365 للهجرة (890 – 975 للميلاد)”..
الجبل الذي تأسست فوقه يقال له اليوم جبل “مورو” monte moro و مما يجدر ذكره أن الفرسان الذي صاروا أهل تلك الامارة العجيبة استعان بهم بعض أمراء أوروبا في قتال بعضهم البعض، و أسفل الجبل الآن توجد قرية تسمى Gardre Freinet تتبع لفرنسا.
.
و تورِد المصادر الغربيَّة قصَّتهم بأنهم مجموعة من البحَّارة الأندلسيِّين (يسمونهم Sarassin) ، وكانت المصادر الغربية تصفهم دومًا بأنهم “قراصنة”، قد اعتادوا على الإغارة على سواحل فرنسا ومصبِّ نهر الرون؛ حيث تورد حوليات سان برتان Annales de saint Bertin مجموعةً من غارات الأندلسيين الخاطفة في أعوام 842، و850، و869م .
.
وذكر المؤرخون الأوروبيون أن العشرين رجلًا المذكورين، لما رأوا ما أصابوا من الغنائم في غزوهم في تلك البقاع، أرسلوا إلى الأندلس، فوافاهم مائة رجل آخرون من نفس نمطهم في الشجاعة والإقدام، فاشتدت وطأتهم على تلك البلاد، وصالوا في جميع جهاتها.
.
وذكر المؤرخون ما كان من السفارات المتبادلة بين الإمبراطور الألماني أوتو الكبير، الذي حكم في الفترة ما بين (352-363هـ) (963-973م) مع بني أمية حكام الأندلس حينها لوضع حَدٍّ لمحاولات مُجاهِدي فراكسينت (فراكسينتوم) فتح جنوب فرنسا، وغربي إيطاليا، وأن تلك السفارات قد فشلت في تحقيق غايتها.
.
أما ذكر مؤرخي المسلمين لها يكاد يكون معدومًا، بل هو كذلك، و لا يُسْتَثْنى منها سوى سَطْرَيْن ذكرهما الإصطخري في المسالك والممالك، ونقلهما عنه ابن حوقل.
قال الإصطخري في المسالك والممالك ص34: وأما جبل القلال فإنه كان جبلًا فيه مياه خَرَّارة، فوقع إليه قوم من المسلمين، فعَمَروه، وصاروا في وجوه الإفرنجة، لا يُقْدَر عليهم؛ لامتناع مواضعهم، ومقداره في الطول يومان،انتهى. وفي تعيين المراد بجبل القلال بحث مطول انظره في حاشية شكيب أرسلان على تاريخ غزوات العرب (ص162 – 165).
و قد وصفها الأوروبيون بأنَّها “أعجب دولةٍ إسلاميَّة غربيَّة مقحمة في صَمْد بلاد النصرانية”، قُدِّر لها أن تظلَّ عشرات السنين دون أن يستطيع ملوكُ أوروبا القضاءَ عليها ..
.
وقد تركوا بها آثارًا بديعة مُدهشة، ولا تزال في إيطالية، وغربي سويسرة جُدران كثيرة مَبنية بالحجارة الكبرى من بنائهم، وفي كل بناء تركوه ظهر أنهم أهل هندسة، وقوة حِيْلة يُعْجَب بها كل من تأملها.
فتركوا بهذه الآثار ذكرًا عظيمًا بين الأهالي، ولا تزال من بقايا آثارهم فيها أبنية ماثلة، وبيوت منحوتة في الجبال، وآبار محفورة في الصخور.
فضلًا عما عُرِف عن بعضهم أثناء إقامتهم في تلك البقاع من الزواج من بنات أهل البلاد، وتعاطي الفلاحة، وغيرها من مَظاهٍر التَّوَطُّن والاستقرار، التي بين اللُّصوص وقُطَّاع الطرق وبينها بُعْد المَشْرِقَيْن.

.
.




