ثورة 17 فبراير بليبيا إنطلقت من المنطقة الشرقية وعاصمتها بنى غازى بمظاهرة كبرى يوم 15 فبراير إحتجاجا على إعتقال محامى ضحايا سجن بوسليم المعارض فتحى تربل قبل يوم واحد فى 14 فبراير، وجاء تدخل الأجهزة الأمنية ضد المظاهرة لتتحول الى إنتفاضة ضد النظام، وفى اليوم التالى إمتدت المظاهرات الى كثير من البلدان الليبية وسقط أول شهداء الثورة بمدينة البيضاء وتحول الثوار الى الهجوم على مقار اللجان الشعبية وأقسام الشرطة وحرقها، لكن النشطاء على الفيسبوك كانوا قد حددوا يوم 17 فبراير لبدإ الثورة ” ذكرى إنتفاضة 17 فبراير 2006 فى بنى غازى” حين إندلعت إنتفاضة شعبية ضد النظام وأدى القمع الى سقوط عشرات الضحايا”، وبالفعل عمت المظاهرات كامل المدن الرئيسية فى ليبيا ليتحول الوضع سريعا الى قمع وحشى من قبل أجهزة النظام وعنف من الجانب الآخر حيث قام الثوار يوم 18 فبراير بشنق شرطيين فى مدينة البيضاء، وبمجرد إنطاق ثورة 17 فبراير فإنها دخلت مباشرة الى العسكرة وبدأ الثوار إستخدام الأسلحة ضد قوات الأمن وجيش القذافى ومرتزقته مضطرين “فلم يعرف عن القذافى سماحه بأى تحرك شعبى سلمى” فلم يكن أمام الثوار الاّ حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم وثورتهم، جاء ذلك متوافقا مع إنشقاق كتيبة الجارح بأسلحتها وإنضمامها الى الثورة مبكرا بينما تمكن الثوار من الإستيلاء على الأسلحة من المعسكرات التى إنسحبت منها قوات القذافى، وأعلنوا المنطقة الشرقية منطقة محررة تحت مسمى ” الجمهورية العربية الليبية” رافعين العلم الليبى القديم المكون من الألوان الثلاثة الأحمر والأسود والأخضر ويتوسطه الهلال والنجمة، وتم تشكيل “المجلس الوطنى الإنتقالى” برئاسة “مصطفى عبد الجليل” وزير العدل السابق ليدير شئون الحكم بينما بدأ القذافى فى إستخدام سلاحه الجوى فى قصف المتظاهرين والمناطق المحررة، ومع تأجج الصراع إنحازت قبيلة ورفلة “أكبر القبائل الليبية” للثورة وكذلك قبيلة ترهونة وغيرها وزادت الإنشقاقات المدنية والعسكرية ضد النظام وأعلن مندوب ليبيا فى الجامعة العربية إنضمامه الى الثوار وعدد من السفراء الليبيين بالخارج، وكانت القيادة العسكرية للثورة بيد اللواء “عبد الفتاح يونس العبيدى” (وزير داخلية القذافى والذى قتلته مجموعة من السلفية الجهادية فى ظروف ما زالت غامضة)، وكان يونس يتميز بالشجاعة والإخلاص والخبرة العسكرية الفائقة حيث شكل وقاد جيش التحرير الوطنى الليبى فى معاركه ضد جيش القذافى الكثيف التسليح.
فى تلك الأثناء قررت الذهاب الى ليبيا وإلتحقت بأول مجموعة طبية تابعة للجنة الإغاثة بنقابة الأطباء وعبرنا منفذ السلوم ليستقبلنا ممثلى الثورة فى مدينة مساعد ثم يصطحبوننا الى مدينة البيضاء عبر طبرق لنقضى ليلتنا ثم نواصل سيرنا الى بنى غازى حيث قضينا بها عدة أيام بينما الإشتباكات مستمرة على خطوط التماس فى محيط مدينة سرت، وأدركت مبكرا حاجة الثوار الليبيين الى أطباء تخدير وجراحة فى مستشفى الجلاء الرئيسية بالمدينة “حيث يتواجد الوفد الطبى” لتفاقم حالة مئات الجرحى والمصابين فقررت الإنفصال عن البعثة الطبية والإنضمام الى المظاهرات اليومية فى بنى غازى ناقلا اليها شعارات ثورة 25 يناير “إمشى يعنى إمشى.. ياللى مابتفهمشى” وغيرها، وكونت علاقات مع الثواربمختلف أطيافهم وكان الغالب بينهم حينئذ الإسلاميين من بقايا (الحركة الليبية المقاتلة) الذين أفرج عنهم النظام بوساطة سيف الإسلام قبل الثورة بقليل، (كانت المفاجأة بالنسبة لى هى إلحاح الثوار بمختلف أطيافهم على تدخل حلف الناتو لوقف القصف الجوى للطائرات وتدخل قوات القذافى ومرتزقته ضدهم)، توقفنا فى أجدابيا على حدود سرت لعدم التعرض للخطر بينما إستطاع بعض الأطباء الشباب ركوب المخاطر أوالإلتفاف من الجانب التونسى ودخول مناطق القتال ومن بينهم طبيب شاب من الإشتراكيين الثوريين إسمه “أدهم” ما زلت أذكر حماسه وشجاعته.
كانت المظاهرات الليلية تنطلق فى بنى غازى بينما هتافاتهم تحمل رسائل لباقى المناطق (يا شباب الزاوية..خللوّا الليلة ضاوية) وما زال الكثيرين يتذكر “غالية بوز عكوك” تلك المرأة التى قادت أول مظاهرة فى بنى غازى توجهت الى مديرية الأمن، بينما تأتى إلينا الأخبار من العاصمة طرابلس متناقضة، فبعد إنتفاض الجماهير بها فى أحياء سوق الجمعة والدهان وأخبار عن إنشقاق قوات الأمن والشرطة والإنضمام الى الثورة ومحاصرة مبنى الإذاعة والتلفزة والتحول الى الساحة الخضراء والإعتصام بها، تأتى أخبار أخرى عن تمكن قوات القذافى ومرتزقته من السيطرة على الساحة وإنطلاق مظاهرات ضخمة مناصرة للقذافى، وفى تلك الأثناء سارع النظام بقطع جميع الإتصالات للشركة الوحيدة “ليبيانا” المملوكة لأحد أبناء القذافى وشمل القطع الانترنت والهواتف المحمولة والثابتة، وإستطاع فى هجوم مضاد أن يستعيد السيطرة على البريقة والزاوية وبن جواد ورأس لانوف وبدأ هجومه على أجدابيا وقصفه لمدينة بنى غازى والتقدم اليها، بعدها بدأ تدخل الناتو بقصف طائرات حربية فرنسية لقوات النظام المتقدمه الى بنى غازى وإعلان الحظر الجوى على سلاح القذافى الجوى مما مكّن الثوار من إستعادة زمام المبادرة والسيطرة تدريجيا على معظم المدن التى فقدوها لتتحول المعركة ضد القذافى فى سرت وطرابلس وتنتهى على أبواب طرابلس بالقبض عليه وقتله.
تبقى بعض ملاحظات سريعة على الثورة الليبية:
1- يتهم كثيرين حلف الناتو بأنه خرج سريعا من ليبيا ” حتى أوباما والسيسى شاركوا فى هذا الإتهام” وأتساءل هل كان المطلوب من الحلف الإستعمارى أن يبقى فى ليبيا بعد مصرع القذافى ليعيد ترتيب الأوضاع كما يحب وكما صنعت أمريكا بالعراق؟، أم أن تلك هى مسؤوليتنا والإخفاق من صنعنا.
2- إن ليبيا الحديثة لم تعرف فى تاريخها المدون شكل الدولة بمعناها المعروف فقد خرجت من النظام الملكى المتصوف القبلى البسيط الى مرحلة عنيفة وطويلة “42 عاما”من حكم الديكتاتور معمر القذافى حيث قام بتجريفها تماما وقضى على أى إمكانية لقيام مجتمع مدنى أو مؤسسات للدولة، لذا فإن الإنتخابات النيابية المتعددة بعد الثورة لم تتم على مستوى سياسى ولكنها طبعت ببصمات قبلية وتمت فى حقيقتها ليس بالمفاضلة بين برامج سياسية.
3- ما يحدث الآن هو صراع ميلشيات مدججة بالسلاح تحركه قوى مخابراتية خلفيتها صراع قبلى ودينى وإستمرارها حتمى لأنها أزمة بنيوية فى المجتمع الليبى وهو ما سمح بتواجد داعش وتمددها.
4- خوف القوى الإمبريالية الوحيد الآن هوأن يتحول أطول شاطئ على البحر الأبيض إلى أكبر بوابة للهجرة غير الشرعية، وأن تتحول ليبيا إلى حضن دافئ لجماعات العنف العابر للحدود، وأن تتحول مناطق الثروة البترولية الليبية إلى ميادين صراع، وأن يختفي الكيان الليبي من خارطة شمال أفريقيا، لذا يتبدى حرصهم على الحد الأدنى لوجود الدولة.
5- المخرج الوحيد لحل الأزمة الليبية هو تشكيل حكومة وطنية بتوافق داخلى تحت مظلة الامم المتحدة للحيلولة دون تقسيم ليبيا، إن إستمرار الوضع الحالى لا يستفيد منه سوى تنظيم داعش خاصة بعد الضغوط العسكرية عليه فى العراق وسوريا.
كما قال أبو الثورة الليبية عمر المختار ” نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت”.