ثقافة وفنون

خالد جعفر يكتب : تفكيك الهوية المصرية

من سمات الشخصية المصرية أنها كانت على مر العصور ، مسايرة دائما للتحضر و الرقي و التطور . و كانت متفردة في التأثير و التأثر ، و تضيف إلى جمال طبيعتها ما يتوافق مع قيمها و عاداتها ، و تقاليدها فتزداد جمالا على جمال رغم كل المحن و الصعاب التي واجهتها ، كانت تخرج منها عفية ، بهية ، معجبانية ، و صبية . و احتار العالم أمام هذه الفاتنة الجميلة . فتسابقوا جميعا و تحالفوا لإيجاد كل سبيل لطمس هذا التاريخ و الجمال و الحضارة . فلم تعد الحروب العسكرية تجدي مع هذا الشعب الواحد المرصوص كالبنيان القوي فلابد من حلول جديدة . فرأوا أن الانهيار لابد و أن يأتي من مكمنه .
و جاءت أصعب مرحلة عاشتها الشخصية المصرية بداية من التسعينات و استمرت خلال تلك العقود ، استطاعت أن تحدث تغييرا كبيرا ، و ملحوظا في العقلية المصرية و تراجعت و تهدمت كل الوسائل التي ترتقي بالتكوين العقلي و الفكر المتحضر . و انهار كل شيء في المجتمع ، و انحسرت الشخصية المصرية في دائرة الجمود و التخلف . بداية من تعليم متهالك سيطرت عليه مافيا التجهيل و تخريب العقول ، و تجريدها من الإبداع ، و عزمت على توقيف و تغييب عقلية أجيال ، و تعاونت كل الأيادي لتخريب أمة بكاملها ، و ساهمت في هذا الانهيار بداية من المسئولين بما فيهم المعلم ، الذي تدنى في مكانته إلى أسوأ مرحلة من مراحل تاريخ المعلم المصري . هذا إلى جانب سطحية علمه و فكره و ثقافته . هو فقط مجرد آلة لا يملك إلا أن يحفظ منهجا فارغا من أي محتوى علمي و يلقنه للطلاب . و لا يملك أي ثقافة أخرى تحيط بهذا المنهج التعليمي ، و لا علم له غير ما فرضته وزارته من منهج . أما غير ذلك فلا سبيل له بأي معرفة أو ثقافة . حتى الطالب الذى لا يعرف الفرق بين التعليم والتعلم ضاعت هويته ، وأصبح تائها مع منظومة تعليم متدنٍ لا تتوافق مع عقله الرقمي ، ومنظومة عصره التكنولوجي . هو يدرس مناهجا وهو على غير قناعة بها . هو يؤدى الامتحانات بطريقة قديمة عفا عليها الزمن ، فخلقت منه إنسانا رافضاً لكل شيء ، ووصل إلى قناعة أنه ليس من المهم أن أتعلم . المهم أن أنجح وانتقل إلى الصف اللاحق .. ولن أتطرق كثيراً إلى منظومة الفساد المجتمعي و الأخلاقي التي أحدثته الدروس الخصوصية .
ومع نفس التزامن كانت المشكلة الثانية التي اكتملت بها منظومة ضياع الشخصية المصرية وجرفت العقلية المصرية واستوقفتها ، بل وتراجعت بها إلى مهاوى الردى والهلاك ، ونقلتها من حضارة وثقافة المصريين التي كنا نتباهى بها إلى ثقافة البداوة والتخلف وتحويل التراث إلى درجة التقديس ، وذلك عن طريق فضائيات الإعلام ، وبدأت حركة تمويلات بالمليارات لتغيير ثقافة وهوية الشعب المصري وحولته تلك القنوات الفضائية الدينية الموجهة و التي أنفق عليها ما لذ وطاب من الدينارات والريالات لتغيير تاريخ وثقافة وعقلية هذا الشعب .
رأينا على شاشات هذه القنوات وجوها جديدة تحمل ثقافة قديمة ، تسيطر عليك وتحيطك بموروث بشرى تحول عن طريقهم إلى دين مقدس وعليك أن تؤمن به رغما عنك
وجوها تدخل بيتك كل يوم وكل ساعة بأثواب بيضاء ولحى طويلة وغطاء رأس لم نعهده في ثقافة أثوابنا المصرية . هذه الأشكال الغريبة استطاعت بقصد متعمد أن تزرع نبتا غريباً بدويا وصحراويا غير ما تعودنا عليه من زرعنا الطيب ونيلنا العظيم الذى حمل نبيا من أنبيائه .
انتشرت بيننا ثقافة أن الأصل هو التحريم على العكس من أن الأصل في الأشياء هو الإباحة . ودخلت في قاموس حياتنا مفردات جديدة مثل التداوي ببول البعير والحجامة والرقية الشرعية والعلاج بالقرآن واستغل المفسدون هذه الأمور وفتحت لهم أبواب الرزق في مقابل هدم القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع ورفضا لعلم الطب الحديث ، وأطلقوا عليه الطب البديل .
ولم تسلم مصر الجميلة من ذلك الإعلام المتدني فكانت الخطة أن تنشر أيضا البرامج السطحية وبرامج الفساد الأخلاقي وبرامج السخرية التي دخلت كل بيت مصري وحفظ الأطفال مفرداته وصارت جزءا من تكوينه الثقافي . فعشنا مع الفساد وعاش معنا وألفناه .
وما بين الرجعية والفساد حدث الشرخ العميق في هذا المجتمع ، وأصابته حالة من الازدواجية المرضية ، وانقسم الناس وتشتتوا ما بين سلفي و علماني وسنى و شيعي ومسلم و مسيحي ، ومازال الإعلام ينفث سمومه ويؤجج النار في نسيج المجتمع المصري .
إنها حرب جديدة ومدروسة ومخطط لها بعناية . فمتى يتنبه المصريون وتجمعهم كلمة واحدة ؟ ومتى يكون لهم رأي عام موحد ؟ متى يعودوا بمصر إلى صورتهاالجميلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى