ثقافة وفنون

مفتاح سعد العلواني يكتب : فارغٌ تماماً  .. كل هذا الكلام.

” و لأنه فارغٌ تماماً

كان طبيعياً أن يذهب

مع الريح .. كل هذا

الكلام !! “

عندما كنت صغيراً .. الكل أخبرني أنه كلما وجدتّ حذاءً مقلوباً على وجهه فلابد أن أُعيدهُ لـ حالته الأولى .. لأنه يحاول إعطاء السماء مؤخرته و يشمتَ فيها .. فإن لم أفعل ذلك فأنا من المغضوبِ عليهم لا محالة .

عشتُ بهذه النصيحة دهراً .. و تشرّبتها حتى أنني كنت أقوم بأفعال غريبة في مقابل أن يستلقي حذاءٌ ما على ظهره !!

أذكر مرةً أنني كنتُ عائداً من المدرسة في يوم ممطرٍ بارد .. فرأيت بركةً كبيرةً في الطريق .. في وسطها يرقدُ حذاء على وجهه .. قلتُ : ( عليك نقناق .. هذا ايش يبي يرده على ظهره اليوم ؟! ) .. ثم ما لبِثتُ أن جمعتُ أحجاراً و بدأتُ بضربِ الحذاء حجراً تلو الحجر في محاولةٍ لإنقاذ السماء من مؤخرته .. هكذا و لمدةِ طويلة ابتلّت فيها ملابسي و امتلأ حذائي بالماء .. لكنني نجحت .. نجحتُ أخيراً في إقناع الحذاء بالتوبة .. و إن كان ذلك بالرجم .. و عدتّ عندها مسروراً مقروراً .

يا لهذه العادات الغريبة كيف تنمو فينا حتى نقاتل من أجلها .. كيف يمكنُ  لفكرةٍ ساذجة أن تزرع نفسها في عقولنا .. لمجرد أن من حولنا أخبرنا بها ؟!

لا بأس .. كنتُ صغيراً حينها .. يمكنني تصديق أي شيء مادام قد غُلّف بغلاف الأخلاق .. لكن الآن ما الذي حصل ؟  الحياة نفسها مقلوبةٌ على وجهها في بركةٍ من القذارة .. و أنا لا أفتأُ أرميها بالحجر ولا تتعدل .. لا تتعدلُ و لا تتحركُ حتّى .. الأمل أيضاً مقلوب .. الحب .. الأحبة .. الأعداء .. الفرح .. كل شيء .. و لا أحد أخبرني كيف يمكن أن أوقفَ كل هذه الانقلابات .. كلهم حشروا بعقلي كلاماً فارغاً عن الأحذية لا غير .

           ما شَي في وجداني .. إلا كلامك عنّي

         ومن هو اللي خلّاني .. ما شي عندي منّي

                           إلا كلامك عنّي

هكذا غنت الراحلة ( فاطمة أحمد ) .. لم يكن في فؤادها إلا ما قيل لها من أحبتها .. غير ذلك فقد ذرتهُ الرياح بعيداً عن وجدانها .. نحن أيضاً هكذا .. نصدقُ كلامَ الذين نحبهم ..لسبب بسيط جداً .. وهو أنه لا يمكن أن يكذبوا علينا و هم الصفوةُ عندنا .. و أنه ربما نعلم أن الكلام خاطئ لكننا نصدقه لأجلهم فقط .

يمكن للكلام أن يجد مستقراً بداخلك فترة طويلة جداً .. أي كلام .. القبيح و الجميل .. الطيب و السيئ .. المفيد و الفارغ .. لكن هذه الهيكلية العظيمة من الكلام يمكنها أن تتحكم في مسارات عقلك كثيراً .. بعض الأحاديث لا يمكنك نسيانها .. رغم أنها قيلت بشكل عابرٍ ربما .. من ذلك أنه قد زارنا أحد الأدباء منذ زمن .. فقلتُ له بفضول صبي  : أخبرني قصة .. فبدأ بسرد قصةٍ عن أحد الأشخاص الذين قبضت عليه عصابةٌ في غابة و عذبوه .. ثم قرروا أن يذبحوه .. و لما وضعوا السكين  على رقبته بدأ بالصراخ .. ثم فلت الدمُ من رقبته التي أصدرت صفيراً كـ صفير الريح .. فأغلقها أحدهم بيده حتى مات ..

تبدو القصة عاديةً بين كل هذه القصص المرعبة الآن .. لكن في ذلك الزمن الذي سمعتها فيه و قد كنت بسن التسع سنوات تقريباً .. لم أنم ليلتها من الخوف و صوت انفلات الدم .. و للآن كلما التقيت بذلك الرجل الذي أخبرني القصة .. سمعتُ صراخه و صفيراً يخرج من رقبته ..

يا إلهنا الجليل .. كيف للكلام كل هذه القدرة على نحت عقولنا .. كيف له أن يتشبّث بها و نحن نحاول نزعه كل يوم ؟

في الحقيقة أنا لا أعلمُ لمَ أتحدث بغزارة هكذا .. يبدو الأمر مربكاً حين أحدثكم عن كل ما هو عالقٌ بجدارِ ذاكرتي .. ذاكرتي التي امتلأت بالأسى على مدى ثلاثةٍ وثلاثين عاماً ..  هلْ تسمعوني ؟ أنا لا أصرخُ و لا أتحدثُ و لا أهمسُ حتى..ولكن هل تسمعوني ؟ تحسّسوا صدري ..يحملُ ظلمةَ الليلِ.. تتكدّس فيه الكلمات بشتى أنواعها .. الكلمات الجميلة .. الجارحة .. العذبة .. الكلمات التي قيلت لي من باب الشفقة.. أو تحت بندِ أنني لا أستحق كل هذا .. لكنني رغم كل ذلك أطعنُ البؤس كل يوم بابتسامة حادةٍ .

في السنة الأولى من الجامعة .. كانت لدي طاولةٌ صغيرةٌ أحملها بين الأسواق .. أبيع العطور و الروائح .. و ذات مرةٍ صادفني دكتور عراقي يحاضرني بالجامعة .. نظر لي و ابتسم .. ثم قال : ( إياك أن تجلس ما دُمتَ قادراً على المشي .. ستترك هذه الطاولة يوماً .. لكنك ستحملُ في صدرك ما هو أثقل منها ) ثم ربّت على كتفي حتى لـ كأنه ربّت على قلبي .. الآن عرفتُ أن الكلام الذي خزنته بصدري ثقيل جداً .. لذلك أحاول في كل مرة أن أفرغ منه و لو قليلاً كي أواصل المشي في أزقة هذا العمر الضيقة .

نحن نحزنُ بأشكالٍ كثيرة.. ولكن لماذَا لا يحزنُ الواحدُ منّا بقوّة ؟ لمَ التردّد ؟ لماذَا لا يتّجه للحزن بشكلٍ

أكثرَ حماساً كلّما أيقن حزنه ؟ كأَن يغطِس عميقاً عميقاً  إذا غرِق أو يتحوّل إلى جذوةٍ إذا احترَق .. أو حتّى يغرِس السكّين بمكرٍ أكثر إذا طُعن !! أظنّ الحزن سيكونُ أكثرَ إبهاراً لو فعلنَا ذلك حقاً .. ها أنا  أحزن بشكلٍ ما .. و لأنّ روحِي تيبّست من الحُزن .. كلّما ابتسمْت .. تكسّر جزءٌ من وجهِي !!

كلّ صباحٍ أمسكُ قلبِي من أذنيهِ كـ جرّة و أدلقُه .. من أينَ كلّ هذا الوجعِ  إذاً .. من أين ؟ لولا أن الروح مليئة بأيامٍ و كلماتٍ و أناسٍ زائدين عن الحاجة حقاً .

 

_________________________

تحرير : سمر لاشين 

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. قصة الحذاء المقلوب رائعة جدا … كل تلك المفاهيم نحتت سطورها في الذاكرة . و لم نجد منها فكاكا . وتحولت الى جزء من ثوابتنا بسبب ايماننا بهم . الولئك الذين كنا نحبهم .

اترك رداً على زينب إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى