تاريخ العرب

تاريخ سائر ..!!

كتب :مصطفي شريف

فى كتابه الأنيق “صفحات من تاريخ مصر”، يروى يحيى حقى من تاريخنا الثائر والسائر الكثير، فى مقالات جذابة كتبت بأسلوب أدبى رشيق وثقافة موسوعية كبيرة. يبحث الكاتب عن الهوية والحضارة بداية من صدمة الجبرتى فى معمل الكيمياء والعربة الصغيرة التى تنقل الأحجار .. إلى التى تتبهى القرعاء بشعر بنت أختها، فكانت تريد مصر أن تستقبل بالاعناق والورود مقدم اثنين من الضباط الأتراك وهما : نورى بك وفتحى بك عام 1912م بالطائرة من تركيا إلى مصر، وهى الطائرة التى سقطت قبل أن تجتاز جبال الطوروس.
ولقاهرة حقى سحر خاص حيث نشاء فى الصليبة وحكايات حمام الدود وسبيل أم عباس … وللاسواق حكايات أخرى، فهذا سوق العصر المجاور لسجن قره ميدان القديم بالقلعة، فهو سوق الفقر المهلهلين، فمن تجار السبارس وهى تجارة الجزء المتبقى من أعقاب السجائر بعد تفريغها لتجد زبائن من أقصى المدينة لشراء هذه البقايا ! وبجواره تجد امرأة من جنس الحدآت تبيع كميات كبيرة من نفايات مطابخ المستشفيات ومعسكرات الانجليز .. أما الأغنياء فى هذا السوق يشترون الحمام بكل أنواعه اليماني والهزازى والشقلباظ .. سوق العصر كان على هامش المدينة بين السجن والجبل.
ومن سوق العصر إلى سوق الكانتو فى العتبة الخضراء، وهو سوق الملابس المستعملة، والبضائع المعروضة تأتى من مصدرين رئيسيين : اللصوص والحانوتية، فهو سوق قائم على الغش والمقالب حتى مع أجعص جعيص!
المدينة القديمة تلفظ أنفاسها ولا نجد غير الذكريات، فمن متاجر السيوف والبنادق المفضضة والبارود فى سوق السلاح إلى حى المغربلين ومن بعده عتمة رقيقة تحت سقف من خشب متداع حيث تتسلل أشعة الشمس من فتحاته فى حى الخيمية، يعملون قعادى، ويرسمون بالقصاقيص على العبك صورة رمسيس العظيم منتصبا فى عربته فى معركة قادش .. فهنا الحوارى الضيقة يرفع فيها المارة رؤوسهم للسماء لا فى دعاء بل للفرجة!
وهنا فى حى السروجية، حيث السرج العربى وجلد وقماش يتشكل وفوق الخيل يتهادى، ومن على مثل هذا السرج ذو الحواجز سقط الغورى فى مرق دابق، وعلى أمثاله سقطت شجاعة المماليك أما مربعات نابليون .. اندثرت صناعة السروج وأصبحت تستورد من اوروبا، ومع تبدل الأحوال تجد العربى والافرنحى، حيث تندثر المهن القديمة لتظهر أخرى حداثية، فى تقليد فارغ من اى جذور … ومن السروجية إلى موقف الحمير فى القلعة والعتبة الخضراء، وعند سور الأزبكية أمام فندق الكونتيننتال، وفى أماكن أخرى تجد لافتات “موقف لعشر حمير” .. وهناك عربة سورس يجرها بغلان، خط القلعة سيدنا الحسين مارا بالمغربلين وبوابة المتولى، وخط القلعة السيدة زينب مارا بالحوض المرصود وبركة فرعون .. وكان فى كل حى تقريبا دكان حصرى، نراه مقرفصا فى دكانه أو فى شارع أمامه وهو يمرر عيدان القش من بين خيوط الدوبارة المشدودة بين عارضتين.
وكان الناس يشترون هذا الحصير اما لفرشه على أرضية الحجرات أو لوضعه تحت البساط، حسب القدرة، وكانت حصيرة الصلاة لها أيضا سوق رائجة، فشتان بين زبيبة الصلاة من أثر حصير خشن، وزبيبة الصلاة من أثر سجاد ناعم.
وكان أهم زبون صقع للحصير هى وزارة الأوقاف، تشتريه لمساجدها العديدة، وكان من النوادر التى يضحك لها الناس قولهم إن شركات الدخان والسجائر كانت هى التى تشترى المستهلك من حصير وزارة الأوقاف!
“الشعب هنا شديد المرح، يهيم كثيرا بالعجائب والمساخر والمواكب” هكذا لخص فلوبير الحال عند زيارته للقاهرة.
– فى هذا الكتاب جمع يحيى حقى مقالات متنوعة فى بعضها تناغم والبعض الآخر تنافر، قد تعجب بالبعض دون الآخر، ولكنها حكايات ممتعة وعميقة كتبت فى الستينيات، غاص فى التاريخ القديم والحديث يروى عن الجبرتى وعن المماليك وشعر شوقى فى المناسبات، يحكى عن الحال قبل الثورة، فيه بعض الحماسة الثورية والاشتراكية، وهذه الحماسة لن تجدها فى مقالات بعد يونيو 1967م .. ولكن فى النهاية الكتاب يستحق القراءة والشغف فمنه نحت من يدعون أنفسهم كتاب ولكنه نحت فارغ ولغة ساقطة لن تبقى، فمن يقراء هذا الكتاب سيكتشف بسهولة تدنى هولاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى