كتاب وشعراء

حسان الحديثي يكتب ….الجمال وحده لا يصنع الخلود

لا ينفكُّ الشاعر محاولاً تقرير اللامعقول للوصل الى فنتازيا الإدهاش بمخالفة النمط؛ تارة في التحليق بالمعاني، وتارة أخرى في التغريب في الصور. كل ذلك من اجل نقل فكر القارئ للصورة الشعرية من القريب المتوقع الى البعيد اللامتوقع لصنع الدهشة.

غير ان صنع الدهشة بجمال القول وحده لا يكفي لخلوده، فالخلود يحتاج الى امر ثان اصعب من الاول وهو احاطة المعنى بسور الحماية ليستحيل اختراقه والوصول اليه ، ولعل المثال الأقرب لهذا التوصيف هو قول الشاعر:

أخذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا … وسالتْ بأعناقِ المَطِيِّ الأباطحُ

وميزة هذا النوع من الشعر هو انه حاز على حالتين؛ الحُسنِ والجمال من جانب، والامتناعِ عن التكرار والتقليد من جانب آخر ، فمن يقرأ صدر هذا البيت لا يتوقع عجزه البتة، وكأن الشاعر أخَذَنا من صورة قريبة وهي: الأخذ بأطراف الاحاديث

الى صورة بعيدة بنقلة غير متوقعة وهي: سَيْلُ الأباطح بأعناق المطيّ.

وبين الصورتين شأوٌ بعيد يعزُّ على التوقع ويصعب على التخمين قبل اللحظة التي تسبق سماعه والوقوف عليه وتبيّن معناه، ثم ادراك الربط بين طرفيه المتباعدين.

وهذا احد اهم اسباب الخلود، اذ بقيَ البيتُ ببريقه ولَمَعانِه، فلم تؤثر به عينُ حاسدٍ أو ناب آكل، فظلّ صامداً أمام صفوف الآف الشعراء المتعاقبين على مر الزمن والمسددين نبال قرائحهم نحوه ممن حلا باعينهم فأسال لعابهم لكنه عزّ وامتنع.

كذلك قول عنترة العبسي الخالد:

فَوَدَدتُ تَقْبيلَ السُيوفِ لأَنَّها … لَمَعَتْ كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ

هذا البيت ايضا يحمل ذات الميزة الآنفة الذكر ذلك ان تشبيه السيف بثغر الحبيبة أمر خارج عن المعقول وتشبيه غير متوقع على الاطلاق، ولكنه اصبح عذباً قريباً الى وعي الأذن وقبول القلب حين صاغه الشاعر -كالبيت آنف الذكر- بمعرفة ودراية مع شيء من الحظ والتوفيق.

وهذا المَفصِل مَفصِلٌ خطرٌ قد وقع في شركه كثير من الشعراء لظنهم ان الامر يعتمد على تركيب بيانيّ جُمليّ لخلق صورة جديدة فيها المفاجأة والدهشة، والحقيقة هو خلق معنى جديدٍ فيه ميزتان؛ البعد عن المتوقع في رسم الصورة والإبقاء على الارتباط معها في السياق.

وهذا النوع من الشعر -برأيي- هو نوع من المدد المتصل بـ “وادي عبقر” في الموهبة يُطلب كثيراً ولا يُنال الا نزراً قليلاً، يتجاوز بصعوبته كثيراً عن المدد الذي يطلبه مريدو التصوف من اشياخهم في الطريقة فكانه ياتيهم من قوة عظيمة خارج نطاق عقولهم وإدراكهم.

لأجل ذلك -كانت وما زالت- مهمة الشاعر عسيرة فليس عليه ان يصنع بيتاً جميلاً وحسب، بل عليه ان يصنع بيتاً جميلاً وصلباً أمام القراءات فبعض الأبيات الجميلة لم تكن صلبة الى الحد الذي يحميها من التشظي بل والتفتت أمام القراءات المتعاقبة فاصبحت كالفطيسة الملقاة في العراء تنهش منها النسور والعقبان حتى تلاشت بعد ان توزعت اشلاؤها في اجواف عدة.

كذلك البيت الحسن اللفظ “السهل الصناعة” لا يصمد أمام الزمن ذلك انه سهلٌ على الأخذ ايضاً وهدفٌ يسيرٌ للتكرار فتراه يفقد بريقه ويتسرب ماؤه، ليس لنقص في حسنه وجماله انما لسهولته وتركه بلا حماية كظبي في أَرض مَذْأَبة.

والبيتان السابقان يحويان من الحسن والجمال ما يكفي لتحقيق الدهشة والمتعة في فكر المتلقي، وفيهما ايضاً من التماسك والصلابة ما يكفي للحماية والاستحالة على المجاراة والتكرار فبقيا عزيزين أن تَلُوكهما الْسُن الشعراء لأجل ذلك بقيا كدرتين ماسيتين فارقتين في جبين الشعر العربي فيهما ميزتان على حد سواء:

البريق الخاطف الخارق لكل عين
والصلابة الدائمة القاهرة لكل فكر.

فتسهل رؤيتهما ويصعب تشظيهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى