كتاب وشعراء

مُنمنمات رواية // ١ شارع الفرزدق …… بقلم// ضحى الخزامى // سورية

مُنمنمات رواية / ١
شارع الفرزدق
لأن الذكريات ملجأ
نلوذ بها كلما داهمنا الوجع

وشارع الفرزدق هو الشارع الذي ولِدتُ فيه ذات ضحى شتوي بارد، في ذلك الضحى ناداني والدي باسم عشيقته التي أحبها قبل أن يتزوج أُمي، ولم يتزوجها لأن أُمي هي التي كانت من نصيبِه، أما أمي فقد فضلَّتْ أن تُناديني ضُحى على أن تُناديني بإسم عشيقة أبي، وقد أَعجبَ جدَّاي اسم ضحى فاعتمداه إسماً لي في المنزل ، حتى الجيران و سكان الحي أحبوا اسمي و كان يترددُ على ألسنتِهم بعُذوبة.
أحببتُ ذلك الشارع مُنذُ طفولتي، بالرغم من أني لم أعش فيه سوى سنوات الطفولة، وفي ذلك الزمن كنتُ كأي طفل ،كثيرة الأسئلة و الفضول والثرثرة، وما أن يعود والدي من عمله، حتى أنهال عليه بسيل الأسئلة التي تدور في عقلي الصغير، بينما هو يجيب ، ثم أروي له مغامراتي الطفولية و القصص التي أتناقلها من أطفال الحي و الجيران، حتى أني كنتُ أنقلُ قصصاً عن جدّاي ، وعمي و زوجته، وأمي وخالاتي، حتى قصص الباعة المتجولين الذين يقصدون الحي، وكذلك المارة و الضيوف .
كنتُ كثيرة الثرثرة حقاً، إلا أن والدي كان يسعد بثرثرتي، و يُصغي إليَ بشغف، وكثيراً ما كانت أمي تنهرني قائلة:” ايه والله دخنا !”
ذات مرة سألتُ والدي ما معنى الفرزدق ، ولِمَ سُمي شارعنا بهذا الاسم، هل هو عصفور يزقزق، أم هو كائن اسطوري من حكايات ألف ليلة وليلة ؟!
و أذكر أن والدي ضحك قائلاً: ” أن الفرزدقة الواحدة تعني فُتات الخبز ، وقطع العجين” ، و لألفتْ نظر والدي بحبي له كنتُ أحفظُ كل كلمة يتلفظ بها أو يتفوه بها ، كنتُ أُفتتُ قطع الخبز في ساحة البيت لتأتي وتلتهمها العصافير بشهية، وأفرح بمراقبتها وهي تلتقط طعامها، كما قال أيضاً : ” أنه في قديم الزمان كان ثمة شاعر اسمه الفرزدق وقد سمي شنارعنا نسبة لهُ ، هو شاعر عراقي من البصرة، وكان شاعر زمانه، واسمه ابو فراس همام بن غالب بن صعصعة المجاشعي التميمي البصري، من زمن الخلفاء الراشدين، عهد عمر بن الخطاب عام ٢٠ هجري”
كنت أحفظ نسبه و أُكرره كببغاءٍ يُقلّدُ صوتَ أَبيه لكل مَنْ يسألني من هو الفرزدق، وكانوا يصفقون لي و كأني حققتُ إنجازاً ما بتكراري هذا النسب، وكنتُ أسعد بتصفيقهم !
يأتي شارع الفرزدق منحدراً من الشمال من الجامع العتيق، والذي يُسمى أيضاً بالمسجد الجامع، وهو أحد معالم الرقة الأثرية العظيمة، وسمي أيضاً بجامع المنصور، بني في عهد أبي جعفر المنصور عندما كان اسم الرقة – الرافقة ، وكان والدي كلما زاه ضيف غريب من بلد أخر، أخذهُ إليه مُتباهياً ،فخوراً بهذا المزار ، و أخذَ يسردُ لهُ تاريخهُ، مُنذُ بناء أول طوبة فيه إلى لحظة وقوفه على رمال هذا الجامع، وكذلك كنتُ أنا ببغاء والدي الذي كرر أن الجامع العتيق بُني عام ١٥٥ هجري على شكل مُستطيل ، بني من اللبن و محاط بسور ..
ويمر الطريق القادم من الجامع العتيق باتجاه الجنوب ببيت جدي الذي يقع في منتصف شارع الفرزدق تماماً ، وبعد منتصف الشارع على الجهة اليمنى وفوق جدار بيت حبابة أم خاشع كان هناك لوحة معدنية زرقاء كُتِبَ عليها شارع الفرزدق ،ثم ينحدر الشارع ، في النزلة التي يسكن فيها صديق والدي الحميم فاروق المهاوش و يُعرج على بيت حبابة فطاشة وابنها علاء الدين ، ويتابعُ انحداره رويداً رويداً ، حتى ينتهي متعامداً مع حارة الحسون التي تبدأ بالتقائها بشارع سيف الدولة من الشرق، إلى الجامع الكبير أو الجامع الحميدي في غربها.
هناك في ذلك الشارع البعيد، ولستُ أدري فيما إذا كان لا يزال يُحافظ على اسمه أم غيروا اسمه أيضاً في موجة تغيير الأسماء ، بعد أن تغيَّر اسم مدينة الرقة عدة مرات في غضون العشر سنوات الماضية، من الرقة إلى عاصمة الدولة الإسلامية إلى روج آفا و مقاطعة الرقة .
هناك قبل النزلة بأمتار قليلة ، في الزُقاق المتفرع شرقاً من شارع الفرزدق باتجاه جامع عمر بن الخطاب كانت تسكن حبابة هاجر، كانت تملك بقرة شقراء، و أخرى سوداء ببقع بيضاء كبيرة في خاصرتها ، كنت أذهب إليها بطاسة بافون كبيرة لتملأها بالحليب، وكلما دخلتُ عليها هلَّتْ و رحببت بي، رافعة يديها، وباسطتها لتحتضني بحضنها الواسع، و أكاد أضيع في ثوب العرب الأسود الذي ترتديه، وهي تردد :” مرحب بضحوي، مرحب ، مرحب” وتملأ لي الطاسة بالحليب، وأعود و أمي أدراجنا و أنا أسأل أمي اسئلتي الطفولية المجنونة و الفضولية، ” ما اسم ابن البقرة؟
و تجيب أمي ” اسمه الحولي”
ثم اسألها فيما إذا كانت تحبني مثلما تحب البقرة ابنها الحولي؟!
فتضحك أمي!
وما إن أصل البيت حتى يستقبلني جدّاي و والدي ولازلت أواصلُ حديثي عن تلك البقرة، عن خوارها، عن حركة ذيلها، وكيف تلعب مع صغيرها الحولي الأبيض، وكيف ترضعه من ضرعها، و أنا أُقاسمُ حولي حبابة هاجر حليبه، ثم أعود و أسأل أمي : هل يشعر حولي حبابة هاجر بالحزن لأني أُقاسمه حليبه، ثم ألتفتُ لجدتي مُتسائلة: هل يشعر ذلك الحولي بالغيرة مني، و تضحك حبابتي فطومة قائلة:” بأنه لا يزعل مني ، بل هو سعيد و أنا أُقاسمه حليبه، وقد أصبحنا هو و أنا ، أخوة بالرضاعة”
فأضحك و أنا أشعر بالسعادة أني صرت أخت حولي حبابة هاجر !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى