ثقافة وفنون

أشرف الريس يكتُب عن: ذكرى ميلاد نجيب سُرور

هو ‘‘ أميرُ شُعراء الرفض و المُقاومة ‘‘ و ” شاعرُ العقل ” و ” الثائرُ المُتمّرد ” ( مُحمد نجيب محمد هجرس ) الشَهير بنجيب سُرور .. ” قد آن ياكيخوت للقلبِ الجَريحِ أن يستّريح فاحفر هُنا قبراً و نّمْ و انقُش على الصَخرِ الأصم يانابِشاً قبرى حَنانك هاهُنا قلب ينام لا فرق مِن عام ينام و ألف عام هذى العِظام حَصاد أيامى فرِفقاً بالعِظام ! ” ربما تكون العِظام هى حَصادُ أيام نجيب سُرور الذى حَمَلَهُ معه إلى القبرِ لكن الأكيد أن حَصاداً آخر رائعاً لازال و سَيَظّل يحيا بيننا تّقتات عليه أرواحنا فناً و إبداعاً مّحْفوظاً فى ذلك المُجَلّد مِن التاريخ الذى يَّحمِلُ على غُلافِه عُنوان ” الفنَ الراقى ” فبهذِه الكَلِماتِ التى تُقّطِر رِقة و عُذوبة كمَثلِ جَميعِ كِتاباتِه الشِعْرية و النّثرية اسْتّشْرف صاحِبها الذى كان يقول ” أنا عارف أنى حاموت فى عُمر الورد ” نهايته و رغم أنها كانت كلِماته الأخيرة التى سُجِلّت على لوحة قّبره إلا أنها و الحقُ يُقال لم تكن أول و لا آخر إبداعاتِه الراقية التى طَغَتْ عليها شُهرّة قصيدتِه الصادِمة لصاحبها الذى كان لكبرياؤه الفّضلَ فى عِصْمَتِه مِن الانحناءِ و لم يُبال مُطلقاً بأحدٍ و هو يَقتَحِم القاهِرة بخيالِه الحالِم الذى ظَن أنه سيُغيرَ به العالم فإذا به يّنكسر ! .. ولد سُرور فى 1 / 6 / 1932م فى قرية إخطاب فى مَركزِ أجا بمُحافَظةِ الدّقهلية و هى قرية فِلاحيـة صَغيرة تّقتات بِجنى ما يّزرَع أهلها و مـا يُرّبون من الدواجِن و المواشى بعيداً عَن أية رِعاية حُكومية ! و كانت تِلك القّرية تُرسِل أبنـائها بقليلٍ مِن الحَماسِ إلى المَدارس الحُكومية المّجانية المُكتّظة بالتلاميذ كى يَتّعَلّموا بشروطٍ بائسة القليل مِن المِعرفة و العِلم بعكس مَدارس المُدنِ الكَبيرة أو المَدارِس الخاصة المُكّلِفة و لكن ما تَعّلَمَه فتى مُرهّف الإحساس و كبير القلبِ و إنسانىِ المواقف مِن أدبٍ و شِعرٍ و لُغةٍ و تاريخٍ و فلّسَفةٍ خِلالِ المّرحلة الثانوية مِثل نَجيب سُرور كان كـافٍ لخّلقِ الشاعِرِ و الفنـان الذى يَتَحّدى الظُلم و الاضطِهاد و هو يراه بعينيه الواسِعتين و قلبِه الحار فكانت ولادة الشاعِر المُناضِل الذى سُرعـان مـا ظَهَرَتْ مواهبَهُ الفَنية الأخرى المُتَمّثِلة فى إدراكِه لأهمية عالم المّسْرح بالنِسبة لقَضيتِه الأولى ” النِضال ” مِن أجلِ كّشْفِ الحَقيقة سّعياً للحُرية و العَدالة ماجَعَلَهُ يَتْرُك دراستَهُ الجامِعية فى كُلية الحُقوق قبل التّخّرُج بقليل للالتحاقِ بالمّعهدِ العالى للفُنونِ المّسرحية الذى حَصُلَ مِنه على الدِبلوم فى عام 1956م و هو فى الرابِعة و العِشرين مِن العُمرِ و قد كانت ” قصيدة الحِذاء ” التى كَتَبَها عام 1956م خيرِ تّجسيدٍ لقِصة حَياةِ طِفلٍ تَعَرّضَ أبيه أمامَهُ للمَهانّة و الضّربِ مِن عُمدّة القّرية الذى سّماه نَجيب ” الرّب ” و كان جَشعاً و قاس القلب يَتَحّكم فى أرزاقِ الفلاحين و فى حياتهم و كى لا نُنْكِر الحَقيقة كامِلةٍ فقد أخْفى نَجيب بداية انتِمائِه إلى جَماعة ” حِدتو ” الشُيوعية قبْلَ سَفَرِهِ فى بِعثةٍ حُكومية إلى الاتحادِ السوفييتى لدِراسَةِ الإخراج المّسْرحى مِن عام 1958م و حتى عام 1973م حَيثُ أعلن هُناك تّدريجياً ميله للماركِسية ما كان لهُ الأثر السَلبى على مّجموعة الطُلاب الموفدين الذين حَرّضوا السَفارة المِصرية و لّفقوا التّقاريرَ ضِده ! و فى ذات الوقت تحوّل تَساؤل الشُيوعيين العَرَب عَن مَدى حَقيقة كّونِ سُرور يَحْمِلُ الفِكر الماركسى مِن عَدَمِه لأنَهُ مُوفد ضِمْنْ بِعثة حُكومية ! تِلك الشُكوك أقْلَقّتْ سُرور و أثارت فى نَفسِه اكتئاباً و مُعاناةً جَعَلّتْهُ يبُالِغ فى تأكيدِ صِدقِه و نُفورِه مِن مّجموعة الموفدين و عَدَمِ ارتباطه بأية جِهةٍ غَيرِ شُيوعية عَن طريقِ تّشكيلِ مّجموعة الديمقراطيين المِصريين فى السَنةٍ الدِراسية الثانية عام 1958م و تعمّدَ المُشاركة فى الحياة الطُلابية و إلقاءِ الخُطبِ الحَماسية و البياناتِ ضِد النظامِ الدكتاتورى و سياسة القَمعِ فى مِصر و الأردن و التى إمْتلأت بِسبَبِها سُجون البَلدّينِ بالآلافِ مِن أبناءِ الوَطنِ الشُرفاء مِن عُمالٍ و فلاحين و مُثقفين و قد كان لِوَلَعُ سُرور بالأدبِ و الفّلْسَفةِ و شَغَفِهِ بالقِراءة و كِتابته للشِعر بالعَربية الفُصحى هو السَبَبُ الرئيسى لعَدَمِ كّبتِ رّغبته الدائِمة بمُخاطَبةِ الناس عّبرَ المّسْرح حيث كان التّمثيلُ فى نَظَرِه أداةََ التّعبيرِ الأكثر نَجاحّاً فَكَتَبَ مّسْرحية ” يا بهية و خبرينى” عام 1967م مِن إخراج الأستاذ المّسْرحى القدير ( كرم مُطاوع ) ثم ” آلو يا مصر” و هى مّسرحية نّثرية كُتِبّتْ فى القاهرة عام 1968م و ” ميرامار” تلك الدراما النّثرية المُقتَبَسة عَن رواية نَجيب مّحفوظ المّعروفة مِن إخراجِه عام 1968م ثُم قَدّمَ سُرور فى عام 1969م مِن تأليفه و إخراجِه المّسْرحية النّثرية ” الكلمات المُتقاطعة ” التى تَحَوّلتْ فيما بعد إلى عَمَلٍ تليفزيونى أخرجه جَلال الشرقاوى و التى أعاد إخْراجها للمّسْرح ( شاكر عبد اللطيف ) بعد عَشرِ سَنواتٍ و استمر تألُق هذا العَمَلُ الفنى حتى عام 1996م و فى عام 1969م قَدّمَ سُرور المّسْرحية النّثرية ” الحُكم قبل المُداولة ” و المّسْرحية النّثرية ” البّيرق الأبيض ” و قَدّمَ فى عام 1970م ” ملك الشحاتين ” و هى كوميديا غنائية مُقْتَبَسة عن أوبرا القُروش الثلاثة لبرشت و ” الشحاذ ” .. يُذكر أن عندما عاد سُرور إلى مصر عام 1964م كانت مُخابرات صلاح نصر فى أوج تألُقها و سّطوتها و مع ذلك لم يتوقّف عَن الشِعر فألفَ قصيدتَهُ الشّهيرة التى كان مّطلعها ” يا حارس السِجن ليه خايف مِن المّسْجون هية الحيطان اللى بينا قَشْ يا مَلعون ؟! و لا السَلاسِل ورق و لا السَجين شّمشون ؟ ” فبهذه الكلمات لّخَصَ سُرور فلسَفَتِه ضد الظُلم فأعطاه الظُلم قوة اسْتثنائية لا مَثيل لها و أضْحّتْ بّصمتَهُ على الحياة الثَقافية فى مِصر واضحةً للعَيانِ حتى يوم وفاته فى عام 1978م بعدما شارك فى الحياة الثَقافية شاعِراً و ناقِداً و باحِثاً و كاتِباً مّسْرحياً و مُمّثِلاً و مُخْرِجّاً حتى أصْبََحَ أحد اعلام المّسْرح المِصرى و العَربى .. يُذكر أيضاً أن سُرور لم يكن راضٍ عَن صلاح جاهين أو زوجته ” سَميرة مُحسن ” التى طلّقها بسّبَبِ الخيانة و ألف فيها قَصيدة هَجاء ( حَيثُ كان عَمها ” مُنير مُحسن ” مُديراً لمكتب مُكافَحَةٍ الشُيوعية فى أمنِ الدّولة و سَبَبّاً رئيسياً فى إضطهادِه كما ذَكَرَ سُرور إنها خانَتهُ جنْسياً مَع الأديب العالمى نَجيب مَحفوظ ! و بأن الأخير قد صَرّحَ له بذلك ! ) ” و الله أعلم ” و لم يَكُنْ سُرور راضٍ أيضاً عن ألحان موسيقار الأجيال ” مُحمد عبد الوهاب ” لأنه كان يرى أنها مَزيجٌ مِن ألحانٍ غّربية و شّرقية بكوكتيلٍ ليس له طّعماً أو لونّاً أو رائحةً ! و الحقُ يُقال أن هَزيمة يونيو 1967م قد حَفَرّتْ جُرحّاً غائِراً فى شّخصية سُرور لم تّبرح حتى نالتْ مِن أعمالِه شِعراً و أدباً ليُصّدِق الشاعِر بأن هُناك مؤامرة عليه قد بداية مِن المُخابراتِ المِصرية حتى مُنافسيه مِن الشُعراء و الاُدباء فحين قام سُرور بكتابَةِ و إخراج مّسْرحية بعُنوان ” الذباب الأزرق ” سُرعانَ ما تَدّخَلَتْ المُخابرات الأردنية لدى السُلطات المِصرية لإيقافها و قد كان لها ماسَعَتْ إليه و بدأت مُنذ ذلك التاريخ مواجهة جَديدة بين الامنِ المِصرى و بين سُرور إنتهت بِعّزلِه و طّرْدِهِ مِن عَمَلِه و مُحاصَرتِه و مّنْعِهِ مِن النّشْرِ ثُم اتهامِه بالجُنون !! و ظلَ هذا الأمر على ذاتِ المِنوال إلى أن تُوفى فى يوم 24 أكتوبر عام 1978م عن عُمرٍ يُناهز الـ 46 عام بمُسْتّشْفى دمنهور العام عَقِبَ اصابته بقيئ دموى و رحل سُرور بعد أن أصابَهُ الخُذلانَ و اليأسَ و هُناكَ بَعض أقوالٍ غَيرِ مؤكدةٍ حّول مّقْتَله بداخلِ المُسْتّشفى للتّخَلُصِ مِن إزعاجِه الدائِم للسُلطاتْ و لكنها للأمانَة أقوالٌ غيرِ مؤكدةٍ و الغَريب و العَجيب أن سُرور لم تكتف السُلطاتِ المِصرية بمُلاحَقَتهِ حياً فقط بل مَيتاً أيضّاً ! بعدما أصْدَرّتْ إحدى مَحاكِم القاهِرة فى سِبتمبر 2002م حُكْمّاً بِحبس ” شُهدى ” ابن نَجيب سُرور لمُدة عام بعد أن وَجّهتْ اليه تُهمة ‘‘ بث مواد مُنافية للآداب ” ! على موقع أنشأه لذلك خِصيصّاً على شّبَكةِ الإنترنت و تَتَمّثَلَ تلك ” المواد ” فى القَصيدة الشّهيرة التى كَتَبها الشاعر الأب و المّعروفة باسمِ ” كـ ..أميات ” و التى كُتِبّتْ تعبيراً عَن إحباطِ جيلِ السِتينيات و يأسِه إثر هَزيمة 67 و تَضَمّنَتْ ألفاظاً جارِحة اسْتّهْدَفّتْ رُموز النِظام الناصِرى و لاقتْ وقتذ رَواجاً إسْتِثنائياً فى مِصر و ظَلّتْ لفّترة إحْدى علاماتِ أدب الهَجاء السياسى فى العالم العربى مَع العِلمِ أن هذه القَصيدة لم يَتِمَ مَنعها مِن النّشرِ أو التّدوالِ و هى أيضاً غير مُصادَرةٍ بِحُكمٍ قضائى و ظلت مُتداولة طيلة فترة السّبعينيات و الثّمانينيات مِن القَرِنِ المُنصّرم بِنّسْخها خَطياً و عَبْرَ شرائِط الكاسيت ! و ظلّت أيضاً مُتوافرة على عَدَدٍ مِن مَواقعِ الشِعرِ و المّسْرح على شّبكة الإنترنت حتى كِتابة هذه السُطور .. رحم الله نجيب سرور و تجاوز عن سيئاته و أسكنه فسيح جناته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى