كتب ومكتبات

داريل والمدينة!

كتب :مصطفي شريف

ولد صاحب “رباعية الاسكندرية”، لورانس داريل” فى عام 1912م فى مدينة جولندر فى ولاية البنجاب،لاب عمل مهندس مدنى فى السكك الحديدية، ووالد داريل هو ابن غير شرعى لأحد المزارعين الانجليز الذى انضم الى الجيش وإرساله إلى الهند. توفيت أخت داريل بالتيفويد وهو فى الرابعة من عمره، خلال السنوات الثمانية التى تلت ميلاد داريل انتقل الى مناطق عديدة اتسمت بالعزلة من بورما حتى مدينة دار جيلينج، وفى سن السادسة عشر كان داريل يدرس فى مدرسة سان ادنوند فى كانتربيرى وهذا فى عام 1928م وهو نفس العام الذى مات فيه داريل الأب وهو يعانى من ورم فى المخ وهو مازال فى سن 43 سنة.
وفى هذه الاثناء تشكل وعى داريل بالمدينة.
وفى عام 1935م تزوج داريل ورحل إلى مدينة كورفو اليونانية، واقنع باقى عائلته بالانتقال معه إلى اليونان، وعن حياته فى اليونان يكتب داريل :
“ترانا فى كورفو قد اعدنا تشكيل الفترة التى عشناها فى الهند والتى افتقدناها جميعا. وقد تفجرت الجزيرة وأصبحت مفعمة بالنشاط والحركة لحياتنا، ذلك لأن الفرد منا يعيش بالفعل عاريا تحت الشمس”
وهكذا يتخذ شكل المدينة القابلة للعيش عند داريل الحيوية والنشاط، وكان يعتبر أن للإنسان محلا ميلاد، الأول الذى ولد فيه والآخر الذى يستهويه ويميل إليه قلبه، وهو المكان الذى يثرى الحياة وينعشها.
ولكن لم يستمر الحال ففى عام 1939م ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ووضح أن كل شىء يتلاشى ولا أحد ينعم بالامان، وأصبح داريل منفطر القلب وواجم وبدأ الأمر كأنه نهاية العالم وضياع الاحلام! فكانت اليونان تمثل لداريل الكثير فيقول عن ذلك: ” عليك أن تقدر اليونان أولا قبل أن تتمكن من فهمى”.. لذلك كان الرحيل كارثة ولكن كان لابد من الهرب من جحيم الالمان .فذهب داريل إلى مصر وأصبحت الاسكندرية مقرا له، وزار القاهرة أثناء رياح الخماسين فكتب :
“بلد كهذا حافل بالعاهات والتشوهات والرمد والاورام والأعضاء المبتورة والقمل والذباب. فى شوارع ترى الجياد وقد شطرت نصفين وقد أهملها سائقوها، أو تجد رجالا ذوى سحنات منكرة سوداء يعف الذباب عليهم وهم يعرضون عاهاتهم على الناظرين … المرء لا يكتب شيئا سوى أسطر قصيرة متناثرة وهو يأوى إلى جوار هذا النيل الفاسد البطىء الجريان، بينما يشعر المرء أنه يتعثر فى خطاه وكأنما تدوسة أقدام الافيال …”
أصبحت المدينة تمثل أطلال سوداء، ففى قصيدة “الاثنتا عشرة كلمة للغجر” يصف الشاعر “بالاميس” المدينة:
وروحك أيتها المدينة الملعونة
لن تذوق للراحة طعما
ستهبط سلم الشر
درجة بعد الأخرى
وأينما تذهب … أينما تتوقف.
ستجد جسدا أسوأ تحل به.
يؤكد مايكل هاج فى كتابه الاسكندرية.. مدينة الذكريات”، أن مدينة “بالاميس” هى القسطنطينية التى سقطت عام 1453م، ولكنها فى النهاية تمثل المدينة التى ترمز لسقوط الانسان، وتأثر داريل كثيرا وأصبح حطاما ضائعا عندما سيطر عليه شوق “بالاميس” الشديد.
وبعد فترة من وجود داريل فى الاسكندرية لم يجد ما يكتبه عن المدينة غير هذا الوصف :
“بالنسبة لمعظم الناس فإن الاسكندرية هى مجرد مدينة مملة يمكنك فيها فقط أن تجد مكانا طيبا للاستحمام والكثير من المطاعم الفرنسية التى يمكن أن تنصح الآخرين بارتيادها، ليس هناك أى شئ لتشاهده! إن المشاهد كلها تتكرر إلى ما لانهاية”
فبعد رحيله عن اليونان وكارثة الحرب وكل شىء يذكرك بالموت والفقد والضياع، أصبحت كل المدن عند داريل سوداء ولا شىء فيها يبهج، لذلك لن يصيبك الاندهاش عندما تعرف أن الاسم الأول لمخطوطة رباعية الاسكندرية كان “مدينة الموتى”!
الصورة لداريل مع ابنته قبل الفرار من اليونان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى