ثقافة وفنون

عبد الله فرغلي

كتب :مصطفي بيومي

في الأربعين من عمره، يقدم أول أدواره السينمائية في “أرض النفاق”، 1968، وبعد ثلث قرن من البداية، 2001، يقدم دوريه الأخيرين في “جالا جالا” و”صعيدي رايح جاي”. أربعون فيلما حصيلة رحلته مع السينما، التي تتوقف قبل رحيله بتسع سنوات. عطاء يبدو محدودا على الصعيد الكمي، مقارنة بإنتاجه الغزير في المسرح والدراما التليفزيونية، لكن عددا غير قليل من أفلامه هذه يبرهن على حقيقة إنه ممثل فذ بكل المعايير، ولا صعوبة عنده في تجسيد الشخصيات المتنافرة المتناقضة بدرجة واحدة من الإتقان والكفاءة، فهو البك والباشا والموظف الكبير والطبيب ورجل الأعمال وضابط الشرطة، وهو أيضا الفلاح ووكيل المحامي وسمسار مباريات الكرة واللص والفنان المتقاعد الهامشي السكير.
عبد الله فرغلي طاقة تمثيلية هائلة، يحيل الأدوار الصغيرة إلى بطولة لا تغادر ذاكرة المشاهد وتسيطر على مشاعره. تحققه غير المسبوق في الأدوار المعقدة المركبة متعددة المستويات، مثل رزق في “الحريف” وعلي الأعرج في “المولد” والخال سيد في “هستيريا”، أما عبقريته الكوميدية فتتجلى بتمامها في وفرة من أعماله وأبرزها “فوزية البرجوازية” و”الشقة من حق الزوجة”، وثمة أفلام أخرى يأسر فيها القلوب بعذوبة وسحر أدائه، وليس من دليل يفوق المحامي حافظ الفوال في “ضربة معلم”.
………………………
رزق الإسكندراني في “الحريف”، 1984، سمسار لمباريات كرة القدم الشعبية التي تعتمد على المراهنات. الأعرج الجبار الداهية مستثمر مستغل لجهود اللاعبين الشعبيين الفقراء البعيدين عن أضواء الشهرة، في عالم يقوده كبار المستغلين في المجالات كافة. ينظم المباريات، وربحه وفير من حصته في بيع التذاكر وعائد المراهنات. لا يسهل خداعه، ونشاطه جم على الرغم من عاهته. دور فريد غير مسبوق في السينما المصرية، يتألق فيه فرغلي ويتوهج بملابسه ومشيته وتحكمه المذهل في تعبيرات الوجه للتفاعل مع المواقف المختلفة.
يعرف رزق بذكائه الحاد وخبرته العريضة حجم الموهبة الاستثنائية التي يتمتع بها فارس، عادل إمام، ويوقن أنه الورقة الرابحة التي يفيد منها ويتاجر بها في صفقاته، لكنه حريص شحيح في العاطفة والعطاء المادي معا، ويتجلى ذلك في تقتيره الفظ الغليظ عند محاسبة اللاعب الموهوب الفقير.
ما يحصل عليه فارس، العنصر الفاعل الأكثر أهمية في المشروع، لا يمثل إلا أقل القليل من أرباح رزق الطائلة، ومن البدهي أن يتذمر الحريف من الاستغلال والمعاملة الجافة والشح الذي يتسم به الأعرج الكريه، لكنه لا يملك بديلا. لا تغيب هذه الحقيقة عن السمسار الجشع، وهو مايتجسد في كلمات واضحة تنم عن وعيه بطبيعة العلاقة التي تجمعهما :”إذا كان عندك حد تاني يديلك أكتر.. أنا تحت أمرك.. لكن تطمع.. لا.. العملية مش جايبه همها بصراحة”.
رزق بارع متمكن في التفاوض وإدارة الأعمال، وعقلية عملية لا اعتبار عندها للمشاعر الإنسانية. لا يملك فارس في مواجهة الاستغلال إلا التنفيس عما يعتمل في أعماقه بعبارة موجعة غير مجدية على الصعيد العملي :”انت بتسرقني”.
السمات التي تميز شخصية رزق، ويعيها فرغلي في أدائه التلقائي الفذ، تسعفه في تقبل الإهانة وتجاوزها بلا عناء، ذلك أن البطولة المطلقة عنده للمصلحة المادية المباشرة. فارس موهوب في كرة القدم دون الإدارة، وعندما يأتي سلامة من بورسعيد ويعرض إقامة مباراة في المدينة الحرة، يكشف السمسار عن مهارته في المساومة للحصول على أفضل الشروط، ولا يتدخل فارس في المفاوضات.
مباراة بورسعيد هذه نقطة تحول في العلاقة التقليدية بين فارس ورزق، ولا يتورع الحريف الساخط عن بيع المباراة والتخاذل متعمدا لإلحاق الخسارة بفريقه. المثير اللافت هو احتجاج رزق على الصفقة لأنها تتم بعيدا عنه فلا يحظى بشيء من مكاسبها، وفي الحوار بينهما يصل عبد الله فرغلي إلى ذروة البراعة في الأداء المتمكن:
“- طب قولي إنك ها تبيع الماتش.. ما اتعودناش ع الخيانة..
– ما تكبرهاش يا إسكندراني.. دي حاجة هايفة..
– هايفة؟.. دي حاجة هايفة؟.. تبيع الماتش من ورايا وتقول حاجة هايفة؟.. طب معناته إيه؟.. طيشة أنا.. إيه.. خلاص.. ما بقيتش مالي عينك”.
ما يزعجه أن تُباع المباراة دون أن يدري، لكن الفكرة نفسها ليست مرفوضة أو مدانة.
استمرار العلاقة بينهما على النمط القديم لم يعد ممكنا، ويسعى رزق لصناعة نجم جديد يزلزل به عرش فارس. يحشد كل إمكاناته لمحاربة الحريف وإذلاله، ولا يملك من يرى انفعالات فرغلى وحماسه والغل الذي يسيطر عليه، إلا الإحساس بأنه رزق كما ينبغي أن يكون.
……………..
علي الأعرج في “المولد”، 1984، يعاني عاهة رزق الإسكندراني نفسها، لكنه أكثر شرا وقسوة، ويلعب دورا سلبيا مؤثرا في إفساد الحياة الأسرية السوية للطفل الذي يسرقه، بركات/هيما، عادل إمام، والأم بركة، أمينة رزق، التي تنفق عمرها لاهثة وراء الابن الوحيد الضائع.
علي لص محترف، والطفل المخطوف أداة تعينه في العمل. ينشئه كأنه الابن، ويلقنه أصول مهنة النشل حتى يبرع فيها. سكيركثير التذمريدمن السخط ولا يعرف الرضا، ونبرة صوته في الاحتجاج على الطعام الذي يُقدم له تنبىء عن الاستياء الذي يسكنه من تحولات “الابن” وإصراره على التوبة :”ما انت اللي عملتلي فيها شريف وبطلت.. قال إيه عايز تتوب.. دا بطر على النعمة.. اللي زيي كان زمانه نايم على ريش نعام وألف راجل بيخدموا عليه”.
يبدع فرغلي في الكشف المبكر عن رؤية وفلسفة علي الأعرج، ليس بكلمات الحوار فحسب، بل أيضا بلغة الجسد وإيماءات الوجه وطبقة الصوت المستخدمة. لن يجد المشاهد صعوبة في استنباط تاريخ الرجل الذي يبدو واضحا في التمسك بجملة المبادىء والقيم السلبية التي يتشبث بها ولا يفكر في مراجعتها والتراجع عنها. رجل متحجر القلب مسرف في الأنانية واللامبالاة بكل ما هو خارج ذاته، ولايحمل شيئا من مشاعر الأبوة تجاه ابنته الحقيقية، يسرا.
استقباله للنقود التي يرسلها هيما بعد سفره تخلو من الامتنان، والموقف نفسه يتكرر بعد الصعود إلى حياة الترف الأسطوري التي يوفرها االابن بعد عودته. ليس أسهل من الاعتراف بجريمته القديمة للنجاة من مخاطر تتعلق برغبة أعداء هيما في الانتقام، ولايتورع في الوقت نفسه عن التمسك بحياة التنعم التي لا يستحقها.
تألق فرغلي في التعبير عن الشخصية غير التقليدية مردود إلى وعيه العميق بالأبعاد النفسية التي تحكم علي الأعرج، وقدرته على ترجمة الوعي إلى فعل مادي عفوي قوامه الحركة والصوت واستثمار الوجه الذي يتحول إلى وجوه.
……………….
الخال سيد في “هسيريا”، 1998، من أنضج الأدوار التي يقدمها الفنان القدير في رحلته مع السينما، وكالعهد به دائما يغوص في أعماق الشخصية فتمنحه أسرارها وخباياها. حالة من الضياع الشجني النبيل، الموجع المؤلم، تقدم شهادة عميقة عن الواقع المختل المضطرب. لا يخلو استسلامه وركوده من احتجاج خافت كامن، وتتداخل الأزمنة في عالم الخال الهامشي المهمش المأزوم فيبدع في التعبير عن الاختلاط والاغتراب والتشيؤ. فكاهته مريرة أسيانة، وغناؤه مراودة لحياة ضائعة مستحيلة الاستعادة، وتحولاته توحي بالأمل في الوصول إلى المصالحة المنشودة التي تتجاوز الذات والفرد، أما السقوط الأخير فبمثابة التتويج المنطقي المتوقع للنهاية التي لا مهرب منها ولا نجاة.
بفضل إمكاناته الخارقة وموهبته المتوهجة، يحقق فرغلي في ساحة الكوميديا إنجازا جديرا بالإعجاب والتقدير، ومن الذي لا يضحك من أعماق القلب مع عبد الشافي كاتب المحامي المتفذلك في “فوزية البرجوازية”، 1985، و”الشقة من حق الزوجة” ، 1985؟.
المحامي حافظ الفوال في “ضربة معلم”، 1987، دور لا يُنسى في السجل الإبداعي الحافل للفنان المتمكن سلس الأداء القادر على الإقناع دائما. أكول نهم، متطرف في بخله، مهلهل الثياب كأنه فقيرعلى الرغم من ثرائه الفاحش. مهارته في المحاماة لا تعني العلم قدراقترانها بالتحايل واللجوء إلى الأساليب الملتوية لإخفاء الأدلة وإفساد الشهود. يتسلح حافظ بقيمة وحيدة تعبر عن طبيعة العصر وتحولاته الكارثية :”ما فيش حد في الزمن ده مالوش تمن”.
حضور عبدالله قوي ساطع لفرط براعته في استيعاب ملامح الشخصية شكلا ومضمونا، وأسلوبه في الأداء مسجل باسمه لا يسهل تقليده، ذلك أنه يتسلح بالعفوية المحسوبة والتلقائية التي يتحول فيها الممثل والشخصية التي يجسدها إلى نسيج واحد.
…………………
عبد الله فرغلي ممثل عملاق عظيم الموهبة، لا يحظى يوما بالبطولة المنفردة، التي تعني مساحة كبيرة وتصدر الاسم في أفيشات الدعاية، فضلا عن الأجر الضخم والاهتمام الإعلامي والشهرة المدوية، لكنه بطل بمعايير الأداء الاحترافي المتمكن والقدرة على التأثير وصناعة شخصيات ذات بصمة، ومن الذي ينسى رزق الإسكندراني وعلي الأعرج والخال سيد وكاتب المحامي عبد الشافي والأستاذ عبد المقصود والمحامي الداهية حافظ؟.
من ينسى عبد الله فرغلي؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى