تقارير وتحقيقاتثقافة وفنون

على خُطا الحوار الحضاري: مع المستشرق الإيطالي والمترجم وعالم المسماريَّات ألفونسو آركي ALFONSO ARCHI

حوار مصطفى عبد الفتاح

بسبب الأحداث المؤسفة التي عصفت بسورية في السنوات الأخيرة، شملت الخسائر الفادحة الآثار العريقة التي تنتشر فوق كل التراب السوري، فتعرضت للهدم والاعتداء والسرقة، وهو ما لم تسلم منه مملكة إبلا الحضارية القديمة، مما دفع باولو ماتييه العالم الإيطالي الذي اكتشف إبلا عام 1964 وفي مقابلة صحفية له للقول: “تمنيت لو لم أكتشف إبلا لما حصل بها في الآونة الأخيرة”.

*      *      *

تل مرديخ واحد من بضعة آلاف من التلال الأثرية في سورية، يقع في محافظة إدلب في اتجاه الطريق العام الواصل بين دمشق وحلب، واعتبرت مجلة نيوزويك الأمريكية أن اكتشاف مملكة إبلا في موقع تل مرديخ هو أعظم اكتشاف في القرن العشرين.

*      *      *

بعد تسع سنوات من مغادرته سورية، كان الوقت مساءً حين رحب بي الرجل الهادئ المستشرق وعالم المسماريات الإيطالي ألفونسو آركي، وهو رجل علم مثابر، لا يحب التلوث بالضجيج، ويقدس الوقت إلى درجة أنه يعتبر أي أمر يبعده عن بحوثه في ترجمة الرقم الطينية هو أمر مزعج، حتى لو كان لقاءً صحافياً، وقد ابتعد عن حياة الرفاه التي تؤمنها له ثروة عائلته الغنية ليتفرغ للعلم، قليل الكلام، يقضي وقت استراحته في التأمل، وله ساعة قراءة يومية قبل النوم، يتصف بلطفه ومزاحه، غادر سورية ولم يعد إليها منذ عام 2011.

 

س. لكل بداية سحرها الخاص، وقد عَمِلْتَ عضواً في بعثة التنقيب، ثم أسندت إليك مهمة ترجمة رقم إبلا، كيف كانت البداية؟

ج. زار العالم باولو ماتييه المنطقة كسائح في عام 1962، وتعرف في متحف حلب على دمية فخارية معروضة في خزانة زجاجية لها تاريخ لم يشعر بالرضا حياله، وعلم أنها مصادرة أمنياً في منطقة تل مرديخ في محافظة إدلب، زار التل فرآه مغرياً بشكله، وبوجود فتات الفخار التي أظهرتها عمليات فلاحة التل من قبل المزارعين، بدأ العمل في التل عام 1964، وتم العثور على عدد من اللُّقَى السطحية التي تعود إلى الألف الثالث وحتى الألف الأول قبل الميلاد، ظلت التنقيبات منذ بداياتها وحتى عام 1968 خالية من أي شاهد كتابي يعين على معرفة اسم المدينة التي كانت عامرة في هذا الموقع أو لغة أهلها.

 

س. إذاً متى بدأت الاكتشافات الحقيقية؟

ج. أول الاكتشافات كانت في العام 1968 حين تم العثور على جزء من تمثال لرجل منحوت من حجر الصوان الأسود فَقَدَ رأسه وجزءاً من أحد كتفيه، يحمل نقشاً كتب عليه اسم الموقع القديم لتل مرديخ أي إبلا مرتين، وكتبت عليه العبارة التالية: “إن ملك إبلا أبيت ليم يقدم هذا النذر إلى الآلهة عشتار”، وبناء على هذا الاكتشاف تأكد لنا أننا نبحث في موقع إبلا، وكان النقش باللغة الآكادية، وهي أقدم لغة سامِيَّة ظهرت مع السلالة الآكادية في بلاد الرافدين في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، ومنذ ذلك الكشف لزمت البحث والتنقيب والترجمة، موزعاً حياتي بين روما وإبلا، روما متحف مفتوح، لكن تراب إبلا المذهل جذبني أكثر.

 

س. قرأت أن اسم إبلا كان معروفاً للباحثين قبل اكتشافها!

ج. لم يكن الاسم (إبلا) نكرة في أذهان العلماء والمؤرخين، فهذا الاسم رددته النقوش الكتابية المسمارية التي خلفها الملك الآكادي صارغون الأول وحفيده نارام سين، ونقوش الملك السومري غوديا ملك لاغاش؛ فالملكان الآكاديان يزعمان أنهما احتلا إبلا، حيث عثر على كتابة تنسب لصارغون يقول فيها: “لقد استطعت أن استولي على إبلا وأرمانوم المنيعتين، وما كان باستطاعة أحد قبلي أن يقوم بهذا العمل”، أما الملك السومري فيعتز باستيراده الأخشاب من جبال إبلا، كما أن بعض النصوص الإدارية المكتشفة في مدينة أور بمنطقة الرافدين والتي ترجع إلى 2000 قبل الميلاد تذكر مدينة إبلا على أنها مركز لصناعة نسج بديعة، ويظهر اسم إبلا مقترناً باسم ماري أكثر من مرة في نص اكتشف في موقع (دربهم) في العراق.

 

س. هذه مراجع بلاد الشام والعراق، ماذا عن الوثائق المصرية؟ هل ذكرت شيئاً عن إبلا؟

ج. نعم، في مصر العليا كتابة هيروغليفية نقشت على أحد أعمدة معبد الكرنك في وادي الملوك، وتعود إلى عهد فرعون مصر تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتحتوي قائمة بأسماء عدة مدن قديمة من بينها إبلا، باعتبارها ناحية اجتازها الجيش المصري في مسيرته المظفرة صوب الفرات، وذُكِرَت كمدينة خربة حوالي العام 600 قبل الميلاد، وورد ذكرها أيضاً في سجلات العمارنة جنوب فلسطين.

 

س. أود أن نتحدث عن نهاية إبلا، تعددت الآراء حول الأمر، فما هو الصحيح الذي يراه الباحث ألفونسو آركي؟

ج. حازت إبلا على عصرين من الازدهار: الأول في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، والثاني في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، ويرى مكتشف إبلا ماتييه أن القصر الملكي دمر نحو 2250 ق.م على يد الملك الأكادي نارام سين، بينما أرى أن المسؤول المحتمل عن دمار إبلا هو مملكة ماري، ولن يحسم هذا الخلاف حتى تنتهيَ أعمال التنقيب، وتترجم كل الرقم.

 

س. ننتقل إلى التنقيب في آثار إبلا، وقد وصلت الأعمال حتى عام 2011 إلى كشف الكثير من الأبنية، هل يمكن إخضاع نماذج التجمعات البنائية في مدينة إبلا لنظرة سِماتِيَّة، أم أن من شأن الصفة المادية لعناصر تلك الأبنية وهدفها الوظيفي ألا يجعلانها جديرةً بالتحلي بالدّلالة ولا بالتعبير الرمزي؟

ج. لا تخرج إبلا عن القاعدة التي شملت أبنية الحضارات السابقة، فالعناصر المختلفة التي تؤلف التجمع البنائي الإبلائي من البيوت الصغيرة والمكتبات والمعابد والقصور والمدافن والمدارس والساحات والأسوار والبوابات، كلها تؤلف منظومة، وهي باعتبارها محرومة من الاستقلال الذاتي الفردي لا تتحلى بمعنى إلا بإضافة بعضها إلى بعض، وعلاقاتها تُحدد بقواعد تعتمد النظام الكوني والشعائر الدينية وبنيات القيادة وتنظيم العمل ومنظومة علاقات القرابة وقواعد الزواج.

 

س. أنت أول من بحث في محتويات الرقم المسمارية الإبلاوية، هل كشفت الرقم عن طبيعة الحياة الاجتماعية؟ أم أن محتوياتها اقتصرت على الجوانب الإدارية والعسكرية فحسب؟

ج. في نصوص الرقم الإبلاوية وَجَدْتُ قوائم بأسماء الموظفين، وقوائم بالمخصصات اليومية والشهرية للأسرة المالكة ولموظفين في الدولة ولمواطنين إبلاويين، وتشتمل هذه المخصصات على كميات من الخبز والجعة والخمر والزيت ولحم الغنم، كذلك تذكر القوائم مخصصات لسعاة كانوا يسافرون إلى مدن صديقة، وتقدمات للمعابد والآلهة، والأموال التي كانت تؤديها الدول الأخرى لإبلا، وهناك الكثير من النصوص التي تتحدث عن الزراعة وتربية الحيوان والصناعة والتجارة.

 

س. هذه محتويات غنية لحياة حضارية متقدمة، ولا بد أن الرقم تضمنت ما يشير إلى التشريعات

القانونية التي تضبط الحياة؟

ج. تحتل النصوص التاريخية والحقوقية في المحفوظات المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وهي تشمل الأوامر والمراسيم الملكية والرسائل والتقارير الحربية والمعاهدات، وأهمها المعاهدة التجارية بين إبلا وآشور، كما تشمل النصوص الحقوقية مجموعات قانونية وعقود ميراث وبيع وشراء، وتليها في الأهمية النصوص المعجمية التي تدل على مكانة إبلا الثقافية والحضارية، ومن بين تلك النصوص المعجمية قوائم الرموز المسمارية، ونصوص القواعد والمعاجم ثنائية اللغة باللغتين السومرية والإبلاوية، وهي أول المعاجم ثنائية اللغة المعروفة في التاريخ، وتحتل النصوص الأدبية المركز الرابع في هذه المحفوظات، وهي تشتمل على عشرين أسطورة على الأقل، وبعضها من عدة نسخ، وعلى ترنيمات وابتهالات للآلهة، تلقي ضوءاً جديداً على المعتقدات الدينية في المشرق في الألف الثالث قبل الميلاد.

 

س. في الرُّقُم التي قمتَ بترجمتها حتى الآن نَصَّان مُمَيَّزان؛ (أنشودة النجوم) و(معاهدة أبرسال)، ما الذي يميزهما؟

ج. (متأملاً نحو الأعلى) نعم، أنشودة النجوم، لأن هذه القصيدة هي أقدم قصيدة حب في التاريخ، وهي تقول:

أَصْمُدُ خَبْخِي

أَصْمُدُ لَسَانِمْ

أَصْمُدُ دَخِرْ سَيْنَمْ

أَصْمُدُكِ كُلّ أَبْنِيْمْ صَلْمِيْمْ

عَلّْ زِيْدَاْنْ آمانْ

أَصْمُدُكِ عَلَى زَنَبَاتِ شَمْشْ

لابْنَمْ يَلِيْنْ، لَبْتُمْ

عَلَى بَانِيَّ إِنْلِيْلْ أَبِيْ إِيْلِيْ

وَكَبْكَبْ

الشاعر في هذه القصيدة يتحدث عن حبه لحبيبته، ورغبته في الاقتران بها، وما يقدمه لها من هبات وهدايا أثناء الزفاف في معبد إنليل.

 

س. قرأتُ هذه القصيدة وترجَمَتَها من قبل، وبدا لي أنها تحوي عدداً من الكلمات العربية؛ مثل كلمة (أصمد) التي تعني أرفع للتكريم، وكلمة (زنبات) التي تعني أطراف، وكلمة (شمش) التي تعني الشمس.

ج. (مُعَلِّقاً) ربما، العلاقة بين لغات الشرق علاقة عميقة.

 

س. النص الثاني المميز في رُقُمْ إبلا معاهدة أبرسال، ما تلك المعاهدة؟

ج. معاهدة أبرسال هي أول معاهدة سياسية واقتصادية معروفة في التاريخ، عقَدَتْها إبلا مع مدينة أبرسال التي لم يعثر عليها حتى الآن، وهي مكتوبة بأربعة وعشرين سطراً على وَجْهَي الرقيم، ويعود تاريخها إلى عام 2350 قبل الميلاد، وهي فترة القوة والازدهار لإبلا.

 

س. ما بنود معاهدة أبرسال؟

ج. تحدثت معاهدة أبرسال عن تبادل السفراء بين الدولتين، واستخدام ميناء إيمار على نهر الفرات والذي كان تابعاً لإبلا وقتها، وتضمنت عدداً كبيراً من اللعنات التي تصبها الآلهة على من يخالف بنود المعاهدة، مما يغني معرفتنا عن الحياة الدينية لإبلا، كما تضمنت المعاهدة أحكاماً ملزمة للطرفين وهي: عدم محاولة احتلال المناطق المجاورة بينهما، وعدم التشهير واللعن، والمحافظة على سرية الحركة التجارية بينهما، وعدم السماح للأفراد بالسفر إلى الدولة الثانية دون الحصول على موافقة حاكمها، وتسهيل حركة التجارة بين المدينتين، وعدم إراقة الدماء أثناء تأدية الشعائر الدينية، وهناك شروط خاصة بكل طرف من طرفي المعاهدة، وعقوبات تفرض على المخالف لشروطها، لكن الأمر الواضح تماماً أن إبلا هي الطرف الأقوى في هذه المعاهدة لأن الشروط التي فرضت على أبرسال أشد قسوة من تلك التي فرضت على إبلا.

 

س. تبدو الرقم محيطة بكل جوانب الحياة في إبلا، هل أشارت الرُّقُم لدور النساء؟

ج. كان للمرأة دور كبير في مملكة إبلا، فهي التي تشرف على الحصاد، وتدير مشاغل الصوف، ومن أشهر النساء الإبلائيات دوسيغو زوجة الملك إركب دامو التي لم تحصل على لقب الملكة، واستطاعت أن تضع ابنها إيشار دامو على العرش، ولم يبلغ الثامنة من عمره، كما وصلتنا بعض الأسماء للأميرات بنات إركب دامو، وهن: الأميرة كيشيدوت التي تزوجت من ملك كيش‏، والأميرة تشاليم التي تزوجت من الملك أتري دامو ملك إيمار، وكان لهذا الزواج دور سياسي في العلاقة بين البلدين، كما ورد ذكر الأميرة زانيب التي تزوجت من ملك لوبان، أما تكريش دامو فقد تزوجت من الملك مرا إيلو ملك نجد، فيما تزوجت كيرسون من ملك إيمار فيما بعد.‏

 

س. هذا عن نساءِ إبلا، ماذا عن المرأة في حياة عالم المسماريات، هل شَغَلَتْهُ الرُّقُمْ عن نصفه الآخر؟

ج. (يضحك) هذا جزء من ثمن التفرغ للعلم والبحث في مملكة التراب، لقد تأخر زواجي، وظن البعض أنني لم أفكر في الأمر البتة، لكن الحقيقة أنني لم أجد وقتاً لمشروع الزواج حتى التقيت بالعالمة ستيفانيا جيوفاني ماتزوني، الأستاذة في جامعة بيزا في روما، ورئيسة بعثة التنقيب في تل آفس الأثري قرب سراقب في إدلب، حيث توجد مدينة تاريخية قديمة اسمها حزرق تعود إلى العصر الحجري النحاسي في فترة الكالكوليت، وكانت قبلها تعمل في بعثة إبلا، وتم الزواج، ولم ننجب أولاداً، وعندما يسأل العاملون في التنقيب عن الأولاد تقول زوجتي المرحة جداً: أنتم كلكم أبنائي.

 

س. أود الانتقال للحديث في جانب آخر؛ جانب اللغة والترجمة، كتب السيرافي ـ وهو من أكابر علماء العربية ـ يقول: “إن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها وأسمائها وأفعالها وصروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وحقيقتها”، من هنا يلح السؤال: إذا لم يكن هناك تطابق بين لغتين، فهل الترجمة خلق وإبداع؟

ج. هذه المشكلة قديمة، يرى البعض أن المترجم هو الذي يقوم بتفهم الأفكار والأقوال في النصوص الأصلية ونقلها، وعندها يعد من الفنانين المبدعين، وهناك من يرى أن عملية نقل أثر من لغة إلى أخرى تنطوي على درجة الإبداع والإيحاء نفسها التي ينطوي عليها هذا الأثر، ولكن من الناحية الأخرى يرى بعضهم أن الترجمة ما هي في الأصل إلا مهارة من المهارات التي يمكن اكتسابها وصقلها وتطويرها، وأنها تصل إلى أعلى ذرا الكمال عند أولئك الأشخاص الذين يفصحون عن إحساس مرهف في أسلوبهم عندما يمتلكون تلك المهارة، وإذا أراد المترجم أن يدلل على أصالته الفنية وجب عليه أن يأتي بالنص الأصلي للعمل الفني.

 

س. بوسع المترجم الملهم إعادة تشكيل عمل فني بأسلوب يجعله يبدو وكأنه عمل جديد.

ج. هذا صحيح، من ذلك ما قامت به كونستانس جارنيت في ترجمة آثار دوستويفسكي إلى الإنكليزية، والتي لا يوازيها إلا عمل يكون قد كتبه دوستويفسكي إنكليزي، لكن لا يغيب عن البال أنه في مثل هذه الحالات كان هناك أثر فني في اللغة الأصلية، وما الترجمة إلا عمل منبثق عنه.

 

س. بمناسبة ذكر الترجمة؛ يقول يوجين نيدا في كتابه (نحو علم للترجمة): “إن مهمة المترجم مهمة صعبة في الأساس، ومهمة لا يشكر عليها في أغلب الأحيان، فإذا ما ارتكب غلطة انتقد عليها بشدة”، وقد تنشأ الأخطاء من طريقة التعامل مع النص، هل تتعامل مع اللغة ـ عندما تمارس الترجمة ـ باعتبارها مجرد وسيط أو أداة للتعبير، أم باعتبارها وعاءً للثقافة التي تنتمي إليها هذه اللغة؟

ج. تنطوي عملية الترجمة الناجحة على صعوبات كبيرة، فما إتقان اللغتين سوى ركيزة واحدة من ركائزها، فنظراً لاختلاف هندسة الجملة من لغة لأخرى يضطر المترجم إلى التقديم والتأخير، وإلى عمليات تنظيمية لتتناسق ترجمته مع النهج المألوف في اللغة المترجم إليها، ناهيك عما يصادفه المترجم من مشكلة جمال اللفظ وموسيقاه، فإذا أضفنا إلى كل ذلك المحسنات اللفظية، وحرص المترجم على عدم مخالفة المشهور من القواعد التقليدية يتبين لنا دقة موقفه، ثم يأتي بعد ذلك الوعاء التاريخي الذي وجد فيه النص، إذ يجب على المترجم مراعاة الثقافة التي أنتجت النص، والشروط التاريخية الخاصة بزمن كتابته، وغيرها.

 

س. إذاً المسألة فيها أكثر من مجرد اعتبار اللغة وسيطاً!

ج. نعم، من ذلك ما يذهب إليه البروفيسور آربري الذي قام بترجمة القرآن الكريم في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، من أن الترجمة الخلاقة هي للمعنى والروح لا للكلم والحروف، وبالتالي يجب اعتبار الثقافة التي تنتمي إليها اللغة، مع اشتراط الأمانة المتناهية للنص.

 

س. بالعودة إلى الرقم الإبلاوية، كم يبلغ عددها الفعلي؟

ج. حدثت الضجة الكبرى خلال التنقيبات في عام 1975 عندما عثرنا على حوالي أربعين رقيماً طينياً مسطراً بكتابة مسمارية في غرفة الأرشيف، وهي صغيرة في أبعادها، ثم وجدت المئات من اللوحات الطينية المشوية تغطي أرض الغرفة، والتي تجاوز عددها 17000 رُقَيم مسماري بين كامل وناقص، أما الألواح السليمة تماما فكان عددها حوالي/200 رقيم/، وكتبت هذه الألواح بالإشارات المسمارية، التي تكتب من اليمين لليسار ومن الأعلى لأسفل، ومن الملفت للنظر أن هذه الألواح كانت مرتبة ومنظمة في غرفة الأرشيف على رفوف خشبية تسندها أعمدة،

 

س. كيف تعامل المكتشفون مع محتويات الألواح الطينية على اعتبار أنها كنز إنساني ثري؟

ج. صُنِّفَت الألواح حسب الموضوعات، فقسم للأدب، وقسم للنصوص الاقتصادية، وقسم للنصوص الدينية، وقسم للنصوص التعليمية، وقسم للنصوص السياسية، وقسم للنصوص الإدارية، وكانت الألواح مختلفة الحجوم حسب الموضوع، فكانت النصوص الإدارية ذات ألواح كبيرة، والنصوص الدينية والاقتصادية ذات ألواح صغيرة، كل حسب موضوعه واستخدامه، ومن أهم موضوعات النصوص المسمارية، وجود القواميس التي تحتوي على الكلمات الإبلاوية وما يقابلها من كلمات سومرية، نظمت على ألواح كبيرة مربعة أو مستديرة.

 

س. ما الذي حفظ الألواح كل هذه المدة؟

ج. لحسن الحظ ساعد الحريق الذي تعرضت له غرفة الأرشيف على تقوية هذه اللوحات التي سقطت من رفوفها وتراكمت فوق بعضها البعض، وعُدَّتْ هذه المكتبة أقدم مركز ثقافي وحضاري لسورية وبلاد الشام عامة، خلال الألف الثالث قبل الميلاد.

 

س. ذكرتَ منذ قليل أن اللغة في الألواح هي اللغة المسمارية، فهل هي لغة الحضارات المعاصرة لإبلا؟ أم لغة خاصة بالمملكة؟

ج. انقسمت آراء العلماء حول طبيعة لغة إبلا وعلاقتها باللغات التي دعيت سامية، فيرى جيوفاني بتيناتو مثلاً أن لغة إبلا تختلف كثيراً عن اللغتين الأكدية والأمورية في نظام الأفعال والضمائر والاشتقاقات وتركيب الجملة وغيرها، وهي أقرب إلى اللغات التي تصنف على أنها سامية شمالية غربية، إذ تظهر الصلة وثيقة بالأوغاريتية والكنعانية، وبناء على هذه الصلة القوية يمكن أن تسمى هذه اللغة كنعانية قديمة، وهي أقدم لغة شمالية غربية معروفة حتى الآن، وتوازي زمنياً الأكدية القديمة، ويرى آخرون مثل غِلْب (Gelb) أن أوثق العلاقات اللغوية للإبلاوية كانت مع الأكدية القديمة والأمورية، وبعيدة عن الأوغاريتية وأبعد ما تكون عن العبرية، ولا يمكن أن تعد لهجة أكادية أو أمورية، كذلك لا يمكن عدّها كنعانية، فهي لغة مستقلة يمكن أن تضاف إلى قائمة اللغات الثماني المعروفة التي تصنف تحت اسم اللغات السامية لتكون اللغة التاسعة فيها، أما أنا فأرى أن اللغة الإبلاوية شديدة الصلة بالأكادية القديمة في نحوها، وبعض أشكال النحو فيها أقرب إلى العربية والعربية الجنوبية، بيد أنها من الناحية المعجمية أشد ارتباطاً باللغات الشمالية الغربية؛ الأوغاريتية والكنعانية والآرامية.

 

س. تعاملتَ مع اللغة السومرية كمفتاحٍ لفهم لغة إبلا، مع أن اللغة السومرية من اللغات الهندوأوربية وليست لغة عربية؟ أليس في هذا الأمر قطع للصلة بين إنسان الأمس الذي كتب بتلك الكتابات السحرية وإبداع تلك الحضارة التي باتت من الجذور الأقدم للحضارة الإنسانية، وبين إنسان اليوم الذي يعيش بلا انقطاع في هذه المنطقة؟

ج. (يهز إصبعه مشيراً نحوي مع ابتسامة لطيفة) يبدو أنك كنت تضمر هذا السؤال حين أشرتَ إلى بضع كلمات عربية وردت في “أنشودة النجوم”، الذي دفعني شخصياً لاستخدام اللغة السومرية سببان؛ الأول هو العثور على أول معجم في التاريخ ضمن رقم إبلا، وهو معجم باللغتين الإبلاوية والسومرية، والسبب الثاني أنني لم أطلع على اللغة العربية إلا من خلال المعايشة اليومية لفريق العمل، بالإضافة لبعض القراءات الأدبية، وهذا لا يتجاوز المحادثة العادية إلى فقه اللغة، وربما صح يوماً ما ذهب إليه بعض الباحثين السوريين من أن اسم إبلا هو اسم عربي لفظه (عَبْلاء) وتعني الصخرة البيضاء، ولا أستبعد أبداً أن تصبح اللغة العربية هي المفتاح لفهم اللغة واللهجات الإبلاوية.

 

س. هل هذا ممكن؟

ج. ممكن، لكن بشرط؛ أن يهتم الدارسون السوريون الذين استقبلتهم جامعات إيطالية، ومنحتهم فرصة الحصول على شهادات عالية متخصصة في الدراسات الإبلاوية، لكنهم للأسف اكتفوا بالوظائف الإدارية عند عودتهم إلى سورية، وأنا حتى الآن لم أجد منهم أحداً ـ وفيهم من يحمل شهادة الدكتوراه ـ قد حرص على ملازمتي لتعلم اللغة الإبلاوية، فأنا قد كبرت في السن، وعملي في ترجمة الرقم سيتوقف عند حدود العمر، أما الرقم فلم يترجم منها إلا العدد القليل، قياساً على ما هو مكتشف، وتحتاج إلى جهود أجيال من المترجمين والباحثين.

 

س. أتمنى أن تجد الرقم من يهتم بها اهتمامك، أود إضاءة زاوية ما زالت مجهولة للكثيرين، هل درستَ النطق في اللغة الإبلاوية؟

ج. النطق هو مصطلح مغالٍ في الانطباعية والإبهام، وهو يشمل وقائع ألسنية مختلفة جداً، بدءاً من علم دراسة اللهجات، مروراً بعلم النفس الألسني، وانتهاءً بعلم الأصوات التطبيقي، ونحن ما زلنا في المراحل المبكرة من دراسة هذه اللغة القديمة، ونحتاج إلى وقت طويل لنصل إلى مسألة النطق في اللغة الإبلاوية.

 

س. باعتبارك ـ رغم طول سنوات البحوث والترجمة في الرقم ـ ما زلت في البداية، ما هي الصعوبات التي تواجهك في دراسة اللغة، واللغة القديمة على وجه التحديد، هل هي صعوبة على مستوى الجملة، أم على مستوى الكلمة؟

ج. لكل الوحدات اللغوية سواء كانت كلمة أو جملة شكلاً كتابياً ندعوه الدَّالّ، والذي يمكننا ملاحظته مادياً، لكن المدلول لا يمكننا مع الأسف ملاحظته مباشرة، لأنه المقابل للدَّال في فكر الكاتب، وكل الصعوبات في الدراسة العلمية للغات القديمة تنشأ من هنا، لكن الصعوبة الكبرى تكون فيما يخص المونيمات، وهي الوحدات الأصغر التي لها شكل ودلالة كالسوابق واللواحق، ومعرفة دلالة المونيم يكسر الصعوبة المتعلقة بالكلمة، وكذلك بالجملة.

 

س. هل تؤيد ـ كباحث متخصص في اللغة ـ ما يذهب إليه أصحاب علم الخطوط أو ما يدعى علم الكتابة عن الدلالة السيكولوجية للكتابة؟

ج. لاحظ الصينيون منذ القرن الحادي عشر العلاقة بين الكتابة والطبع، إن حركة الكتابة وشكلها يعكسان الحالة الذهنية لمن يكتب، واستعداده الداخلي.

 

س. لننتقل إلى ميدان أكثر سعة؛ ميدان الثقافة، باعتبار أن الفعاليات الإنسانية التي صنعت الحضارات على مسرح الحياة كتبها وأخرجها الإنسان، ثم قام بتمثيلها، هل الثقافة الإنسانية كَمٌّ أم كَيْفٌ مما تنتجه أمة من الأمم؟

ج. لا يمكننا أن نتصور حضارة بلا إنسان، ولا يمكن لنا أن نتصور تاريخاً بلا ثقافة، فالشعب الذي فَقَدَ ثقافته فَقَدَ حتماً تاريخه، والثقافة ـ بما تتضمنه من فكرة روحية نظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها ـ لا ينبغي أن تعتبر علماً يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به، وإطار يتحرك داخله، يغذي الحضارة في أحشائه، فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته، تبعاً للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحداد والفنان والعالم والراعي ورجل الدين، هكذا يتركب التاريخ، فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها، بما تتضمنه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة، وتقاليد متناسبة وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة؛ هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قُطْبَيْها، من عقلية ديكارت وروحانية جان دارك مثلاً.

 

س. أو من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي مثلاً؟

ج. تماماً، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ.

 

س. ذكرت في إحدى محاضراتك مصطلح (سيكولوجية التلاقي الحضاري)، ما دلالة هذا المصطلح؟

ج. كل حالة احتكاك حضاري بين الشرق والغرب ترافقت بصدمة، لكنها أيضاً ترافقت ببعض الخطوط المشتركة، وهو ما أدعوه سيكولوجية التلاقي الحضاري، وهو موضوع له فائدة مباشرة اليوم، حيث قضى تقدم التكنيك على المسافات، وحصلت احتكاكات بين حضارات كانت لعهد قريب معزولة في عالم خاص بها، بينما هي في الواقع أجزاء من عالم واحد،

 

س. هل بالإمكان التوسع في توضيح هذا المفهوم؟

بتوضيح أكثر؛ سيكولوجية التلاقي هي ظاهرة تحصل عادة عندما يصيب الإشعاع الفكري لحضارة ما جسماً اجتماعياً غريباً، إن مقاومة هذا الجسم تعكس الإشعاع الفكري بتجزئته تماماً كما يجزئ المنشور الشعاع الضوئي ويعطي ألوان الطيف، وبعض أجزاء الطيف تتمتع بقوة أكبر من غيرها للتسرب، والشيء ذاته يحصل مع العناصر التي تؤلف الإشعاع الفكري، لذلك عندما بدأ الاحتكاك بين الغرب والشرق نجح الإشعاع التكنيكي في القضاء على مقاومة الجسم المُسْتَقْبِل، بينما عجز العنصر الديني، وهكذا نجد أحد قوانين الإشعاع الحضاري، وهو أن قوة التسرب في عنصر حضاري هي على العموم متناسبة عكساً مع الأهمية الحضارية لهذا العنصر، فالمجتمع المُهاجَم يظهر مقاومة تجاه عنصر ثانوي أقل بكثير من تلك التي يواجه بها عنصراً رئيسياً بالغ الأهمية.

 

س. ما تفسير ذلك؟

لأن العنصر الثانوي لا يُحدث اختلالاً بالغ العنف والألم في طريقة الحياة التقليدية، ولكن لا السيطرة على التكنيك الحديث، ولا الحماسة المبذولة للحفاظ على طريقة العيش التقليدية يستطيعان أن يكونا الطريقة الفضلى للإجابة على التحدي الذي تطلقه حضارة أجنبية جاءت لتحتك بحضارتك، مع التسليم بأن سيكولوجية التلاقي بين الحضارات الشرقية والغربية كانت قوية تماماً في العالم القديم، فهذه السيكولوجية أرضعت الغرب الدين، وهو عنصر رئيسي وليس عنصراً ثانوياً من عناصر الإشعاع الحضاري.

 

س. بالعودة لقضية المصطلحات؛ يُلاحظ أنك تستخدم عدداً لا بأس به من المصطلحات البيولوجية في أبحاثك المنشورة ضمن المجال التاريخي والحضاري، ما السبب؟

ج. أود أن أوضح ذلك ضمن سياق فكرة معينة؛ إن أي حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة الأشياء المادية التي تنتجها، ومُشْتَمَلات هذه الأشياء، أي أنها لا يمكن أن تبيع روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية، وأذواقها، هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل، والتي توجد في الكتب أو في المؤسسات، ولكن بدونها تصبح كل الأشياء المادية التي تبيعها فارغة، دون روح، وبغير هدف، وهي بوجه خاص تمنح ذلك العديد الهائل من العلائق التي لا توصف، والتي تبعثها أي حضارة داخل أشيائها وأفكارها من جانب، وبين هاتين المجموعتين والإنسان من جانب آخر، وفي استخدامي للمصطلحات البيولوجية أجد أن الحضارة مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي ـ البيولوجي ـ حيث ينشأ ويتقوى هيكلها، وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها، لذلك أميل لاستخدام المصطلحات البيولوجية في وصف هيكل الحضارة المادي وتحولاته.

 

س. لك رأي خاص حول البطولات التاريخية القديمة، ويقول البعض: “إن من بَدَا نجماً ساطعاً في التاريخ عند الناس، يتحول عند ألفونسو آركي إلى مجرد عابث لا طائل من كفاحه“، كيف تردُّ على ذلك؟

ج. إن عهود الملاحم كالأوديسة والإلياذة ليست هي العهود التي توجه فيها الشعوب طاقاتها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة، بل هي تَصْرِفُ في مثل هذه العهود طاقاتها تسلية وإشباعاً لخيالاتها، وما جهود الأبطال الذين يقومون بأدوارهم في تلك الملاحم إلا جهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء العقيدة، فهم لا يقاتلون مدركين أن نصرهم قريب، وأن طريقهم إلى تخليص مجتمعهم محدد واضح، فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطورة منه إلى التاريخ، ولو أننا سألنا أحدهم عن بواعث كفاحه، فإنه لا يستطيع أن يجد بكل وضوح المبررات التي تتصل عادة بالأعمال التاريخية، فهو يعلم أن مجهوداته كلها تذهب هباءً، غير أن دوافعه الروحية وشرفه الإنساني قد حَتَّما عليه مثل هذا المسير.

 

س. من الحديث عن الدوافع الروحية، والشرف الإنساني اللذين شكلا سمات مشتركة بين الحضارات والثقافات، أود الانتقال إلى المثاقفة، باتفاق المؤرخين؛ المثاقفة هي السيرورة التي يحدث بواسطتها تناضح السمات الثقافية الخاصة بحضارتين مدفوعتين إلى أن تتفاعلا معاً على نحو دائم ومستمر، هل وجدت حالات من المثاقفة بين حضارة إبلا والحضارات المزامِنَة لها من خلال ما ترجمتم من رقم؟

ج. تتم المثاقفة بفضل التفاعلات الدائمة التي تحدث في كل قطاعات الحضارة؛ الألسنية، والاقتصادية، والتقنية، والأخلاقية، وغيرها، وقد أظهرت رقم إبلا في بادئ الأمر اقتباسات مادية من الحضارات الأخرى العراقية والمصرية شملت بعض أنواع الثياب والأسلحة والأدوات، ثم اقتباسات اجتماعية وسياسية كالنظام الملكي والجهاز الإداري، وأخيراً اقتباسات روحية، لكن هذا الانتقال الثقافي يبدو أنه تم على نحو انتقائي، وهي مثاقفة تفاعلية، فإبلا قدمت للحضارات الأخرى المعاصرة لها بقدر ما أخذت، وربما تظهر كتابات الرقم الطينية في الزمن القادم ما هو أكثر، فالحضارة هي نتاج تراكم خبرات كل المجتمعات الإنسانية.

 

س. هل ينطبق مفهوم المثاقفة على القول المأثور: “إن مياه نهر العاصي تصب في نهر التيبر”؟ ما هو تأثير الحضارات السورية في الحضارات الغربية القديمة؟

ج. لا مجال لذكر ذلك التأثير الكبير في متسع زمني قصير، لكن للتوضيح أذكر أن خمسة أباطرة من أصل سوري حكموا روما مدة ستة وخمسين عاماً، حيث بلغ هذا التأثير أشده بنقل حجر معبد إله الشمس إلى روما، فانتشرت عبادته، ودخلت الآلهة السورية في طقوس العبادة الرومانية، وقد اكْتُشِفَتْ في روما على منحدر جانيكولا آثار ثلاثة أبنية متراكبة عثر فيها على كتابات تدشينية باسم الآلهة السورية؛ حدد، وحدد أكروريتس، وجوبيتير مالكيبروديس المنسوب إلى مَلِك يبرود، وقد عمل هؤلاء الأباطرة على إبراز أهمية سوريا ومكانتها، ولا بد من الإشارة إلى أن حملة الاضطهادات ضد المسيحيين قد خفت وطأتها أو توقفت في عهودهم.

س. حبذا لو عرفنا أسماء الأباطرة السوريين الذين حكموا روما.

نعم، مِن هؤلاء الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، وهو من أفاميا أو قلعة المضيق، تزوج من جوليا دومنة الحمصية لجمالها وثقافتها، وهي ابنة رئيس كهنة معبد إله الشمس في حمص، وقد أصبحت سيدة روما، ثم جاء الإمبرطور كراكلا ابن سبتيموس سيفيروس وجوليا دومنة، استلم الحكم وهو شاب يافع، بعده جاء الإمبراطور ايلاغابالوس، اغتيل في روما، ثم جاء الإمبراطور ألكسندروس سيفيروس، الذي أظهر عطفاً وميلاً إلى التسامح مع المسيحيين، ثم تولى الحكم الإمبراطور فيليبس الحوراني، وأصله من مدينة شهبا في منطقة حوران جنوب سورية، وتميز حكمه بالراحة والعمران، وثمة ملوك آخرون من سلالة الملكة الحمصية جوليا دومنة حكموا روما أيضاً، وكذلك الأسطورة التاريخية الدمشقية أبولودور الدمشقي، الذي بنى روما وحكمها، فأصبحت تحفة الزمان، وحسبُنا أن اسم أوربا هو اسم أميرة سورية، لقد أخذ الغرب الكثير من الشرق، الثقافة والفن هما الطريق الوحيد للتقارب بين الحضارات المختلفة.

 

س. هذا التأثير التاريخي القديم يجعلني أستذكر سؤالك في ندوة إبلا الثقافية منذ سنوات: “لماذا يخاف العرب من العالمية؟” وقد أجاب أحد المفكرين من الحضور على سؤالك: “إن العرب لا يرفضون العالمية إلا إذا عَنَتْ طغيان الثقافة الواحدة؛ الثقافة التي عَناها بعض المستشرقين، والتي تجعل ثقافة الشرق تدور في فلك الغرب، لكن العالمية الصِّحِيَّة التي تقبلها الشعوب هي عالمية الحوار الحضاري”. فهل مازال رأيك بهذا الصدد كما كان؟

ج. بداية أود القول إن النمط الجمالي الغربي أصبح سائداً، وذلك بسيادة اللغة البصرية ذات التقنية العالية، والتي كرست هذه السيادة من خلال اللباس، والوجبات السريعة، ومن خلال نمط الحياة وطريقة المعيشة والتفكير، لكن الغرب ليس واحداً.

 

س. إذاً ليس الغرب واحداً، وليس الشرق واحداً، أين تكمن المشكلة؟

ج. نعم، ليس هناك غرب مطلق، وليس هناك شرق مطلق، المشكلة التي يعيشها الشرق، هي أنه عندما يتحدث عن الغرب فهو يتحدث عن الإدارات الغربية، وإذا أراد الشرق أن يتجاوز هذه الأزمة فعليه أن يكون في صورة هذا الأمر، لأن مصطلح حوار الحضارات يتجاوز حدود السياسة إلى أبعادٍ لغوية وثقافيةٍ وأيديولوجية واقتصادية، وعليه؛ فإن المقصود بالحضارة العالمية هو الثقافة التي تتجاوز المواقف المجتمعاتية إلى الفكر الراقي والحس النقدي والجمالي والأخلاقي، وبذلك فالثقافة هي الحضارة الخاصة بكل أمةٍ من الأمم، تحملُ سماتَها ونَهْجَها الروحي والفكري والأخلاقي والاجتماعي، وتنشر إشعاعها على الأمم الأخرى، وهذا ما أعنيه اليوم في مفهوم العالمية، إنها التكامل الذي تنشده الأرض في الحضارات التي تُطَرِّزُها.

 

س. لكننا في الشرق نرى أن الحضارة الغربية اكتسبت المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع تضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة؟

ج. في عالمنا الغربي تمت أحداث النهضة والإصلاح ثم الثورتين العلمية والفكرية في أواخر القرن السابع عشر، ثم الثورتين الفرنسية والصناعية، كل واحدة منهما خلال جيل كامل، وأصبحت فيما بعد إلزامية بحكم القانون، وتصاعُدُ قوةِ الغرب ترافق مع تراجع قوة الشرق وحضارته، وبتنا الآن نرى الشرق أجزاءً متفرقة بالرغم من أن جميع الكتب والصحف الصادرة في القاهرة ودمشق وبيروت تُقْرَأ في المنطقة الشاسعة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي باللغة ذاتها.

 

س. إذاً هل ينتهي مفهوم الثقافة دائماً إلى أن يتماهى في تهنئة الذات حين يناقش الغربُ ثقافته، أو في العدائية حين يناقش ثقافة الآخر؟ ألا يعترف الغرب ببعض المسؤولية عن تراجع الشرق؟

ج. ربما تساءل الغرب بعد فوات الأوان: هل من الضروري ـ لنهضة الغرب حقيقةً ـ أن نرى العالم العربي يتفكك ويتجزأ، كما حصل مع الأسف للإمبراطورية الإسبانية الأمريكية؟ إن التجزئة تعتبر من أخطر نقائص حضارتنا الغربية، ومن المؤسف أننا رأينا الشعوب العربية تنسج على منوالنا، مما سبب فقداً للكثير من استقرار البشرية، لأن الوحدة السياسية والاجتماعية على مستوى ونطاق عالميين هما ضرورتان لسلامة الإنسانية، ولسلامة الحضارة واستمرارها، ولا نستطيع أن نتحمل في الغرب كل المسؤولية، لكن لابد من الاعتراف ببعضها.

س. ما أهم العوامل التي تستمر بها الحضارات؟ وهل يمكن اعتبار الدروس التاريخية مستندات من الماضي تتكئ عليها الشعوب في حركاتها الحاضرة لتُنشئ حضاراتٍ يكتب لها الاستمرار؟

ج. الحضارة التي تتطور تبعاً لأفكار مجردة تعانق الضمير الشعبي، وتلتزم المبادئ والمقاييس والقواعد التي تتحكم في سيرها، تحمل في طبيعتها مبدأ التعديل الذاتي الذي يفرض عليها رقابة من نفسها، معدلاً بذلك حركتها واتجاهها عند الحاجة، وكل حركة من حركاتها تتطلب كأي عملية حسابية، تعقيباً على نتيجتها، وتصحيحاً تابعاً لها، فالحضارة الصحيحة تُراجِع دائماً نتائجها، وهذه المراجعة تحميها من تدخل أي عامل أجنبي يحاول تغيير مرساها ومجراها، وتضمن بذلك استمرارها.

 

س. هل ينطبق هذا المبدأ على كل الشعوب؟

ج. لا، في البلاد التي لم تبلغ درجة معينة من التطور، أو التي سببت لها بعض الظروف وعواصف التاريخ نكسة في التطور، وحركة تقهقر شامل، فإن الفكرة المجردة تحل في شخص لتنشئ صورة خاصة، وهذه بحكم شذوذها عن مقاييس العقل، تتشبث بفرد تتجسد في ذاته، فتتطور وتنمو وتنتظم طبقاً لمصالحه الشخصية، بحيث تصبح هذه المصالح تلقائياً، هي المبررات والدوافع والمقاييس لحركة تقود في النهاية إلى الدمار.

 

س. أود أن أذكر حادثة جرت في عام 1798، حين وصلتْ إلى باريس قافلة عربات مزينة بالأكاليل واليافطات، ومليئة بالمنحوتات الرائعة والثمينة، ولوحات عصر النهضة ومخطوطات وآلات علمية، يومها قال نابليون: “هذا كل ما هو جميل في إيطاليا”، وأُطلق على موكب المسروقات اسم “عيد الحرية”، برفقة هذا الموكب كان ثمة جوقة عسكرية تصدح: “روما لم تعد في روما، إنها الآن في باريس”، كانت هذه الغنائم نتيجة الحرب التي شنّها نابليون على إيطاليا، ألا يبرر هذا الحدث ما كتبه كولن ولسون في مقدمة كتابه (سقوط الحضارة): “كنت أنظر إلى حضارتنا نظرتي إلى شيء رخيص تافه، باعتبار أنها تمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية”؟

ج. يعيدني هذا السؤال إلى قول نيتشه: “من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه، كما تعيد الشمس كَرَّتَها من نقطة الانقلاب”، فإن كنا مع بداية الألف الثالثة قبل الميلاد مع نشوء الكتابة في المشرق لأول مرة في تاريخ البشرية، ومع نشوء المدن بما سمي الثورة المدينية، فإننا ـ للأسف ـ مع بداية الألف الثالثة الميلادية شهدنا نظرة من الغرب إلى هذا التراث الإنساني مشوبة إما بالجهل أو بالخفة وربما بالكراهية. ذكر جان كرتس المسؤول عن دائرة الشرق الأوسط القديم في المتحف البريطاني: “إن المركبات العسكرية سحقت أرصفة عمرها 2600 سنة في مدينة بابل التي تعد مهداً للحضارة”.

وما يحصل في إبلا والآثار السورية منذ تسع سنوات أمر مؤسف.

 

س. أليس أمن الإنصاف القول: “إن الغَرْبَ تَعَوَّدَ أن يكتب التاريخ من وجهة نظره وحده ليقرأه الآخرون”، ألم يحن الوقت الذي يكتب الآخرون فيه التاريخ ليقرأه الغرب؟

ج. دعني أوضح أن أقدم آثار سورية تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، أي منذ حوالي مليون عام، عاش في تلك الفترة إنسان الهوموإركتوس ـ الإنسان المنتصب القامة ـ الذي اشتهر بتصنيع الفؤوس الحجرية، وذلك في موقع ست مرخو شمال اللاذقية، وفي موقع القرماشي واللطامنة على العاصي وفي البادية التدمرية، هذه الحقائق التاريخية البسيطة عن الشرق لا يعرفها أبناء الشرق!

 

س. هل يعني ذلك أن الشرقيين لا يهتمون بتفاصيل تاريخ أرضهم؟

ج. لا، التفسير أن الشرقيين توقفوا عند حدود ما كتبه الغرب عنهم في فهمه لحضارتهم، ورددوا أقواله، واكتفوا باستنتاجاته دون إضافة أو بحث أو استقراء.

 

س. ما موقع جهود الباحثين الشرقيين ـ أبناء البلد ـ في هذا السياق؟

ج. من المؤسف أن بحوث الشرقيين في هذا السياق ما زالت تجميعية ونظرية ومعلوماتية، بعيدة كل البعد عن الإبداع، والابتكار، واستخلاص النتائج، والقيام بمقارنات جدية لاستخلاص معطيات الحضارات الشرقية برؤية شمولية، وقد لاحظتُ أن صلة المفكرين العرب بالجمهور ضعيفة، بالإضافة إلى أن جانباً كبيراً من الفكر العربي المعاصر ما زال مشغولاً بإعادة طرح الأسئلة القديمة، مع أن الفكر مطالَب بإنتاج الوعي، أليست مفارقة أن تسألني ـ وأنت ابن هذه الأرض ـ عن تاريخ أرضكم؟

 

س. أعترف أنها مفارقة صعبة، لكن يشد انتباهي القرار الغربي بالتوقف عن استخدام مصطلح “استشراق”، هل رأى الغرب أن هذا المصطلح لم يعد يفي بوصف الباحثين المتخصصين في مجال الدراسات الشرقية؟ أم أنه ينطوي على حمولات تاريخية ودلالات سلبية، كأن يُتَّهَم بفرضه حدوداً معوقة على الفكر والعقل، فكان التخلي عنه أمر لا بد منه؟

ج. الاستغناء عن مصطلح “الاستشراق” كان من قرارات منظمة المؤتمرات العالمية في مؤتمرها الذي عقد في باريس عام 1973، وأطلق على هذه المنظمة اسم: (المؤتمرات العالمية للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا)، وعقدت المنظمة مؤتمرين تحت هذا العنوان إلى أن تم تغييره مرة ثانية إلى: (المؤتمرات العالمية للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية)، وقد عارضت هذا القرار دول الكتلة الشرقية؛ روسيا والدول التي كانت تدور في فلكها، ومع ذلك ففي المؤتمر الدولي الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية الذي عقد في بودابست بالمجر كان مصطلح استشراق ومستشرقين يستخدم دون أي تحفظات.

 

س. هل يعني ذلك أن الأوروبيين الغربيين والأمريكيين هم الأكثر اعتراضاً على هذا المصطلح؟

ج. لعل هذا يفيد المغايرة، بحيث يتحدثون عن المستشرقين ليثبتوا أنهم غير ذلك بل هم مستعربون، أو باحثون في العلوم الإنسانية، أو متخصصون في الدراسات الإقليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي تختص ببلد معين أو منطقة جغرافية معينة، لكن مع ذلك أود الإشارة إلى أن العديد من المستشرقين وضعوا هذا المصطلح والعاملين تحت لوائه في حيز من الدلالات السلبية، لكن مما لا شك فيه أيضاً أن لمستشرقين آخَرين فضلاً كبيراً في إخراج الكثير من كتب التراث ونشرها محققة مفهرسة مبوبة، ولا شك أن الكثير منهم يملكون منهجية علمية تعينهم على البحث، ولا ريب في أن لدى بعضهم صبراً ودأباً وجلداً في التحقيق والتمحيص وتتبع المسائل، وأظن أن الكثيرين لا يختلفون مع الفكرة التي تقول: إن أجمل ما كتب عن الحضارة العربية هو ما خطته أقلام المستشرقين كالألمانية زيغريد هونكة، وغوستاف لوبون، الذي نبه الغرب في ذروة استعباده للشعوب إلى أن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب، وكذلك الفرنسي سيديو الذي وضع كتاب (تاريخ العرب)، ولفت انتباه أوربا إلى الآثار الجليلة للأمة العربية، وعلو شأنها، وتفرد جمال أخلاقها.

 

س. في النهاية أذكر قول الكاتب البلغاري نيكولا خايتوف: “الشعراء ينضجون كتفاح الصيف، أما تفاح الروائيين فينضج في الخريف”. ماذا يقول البروفيسور ألفونسو آركي عن نفسه؟

ج. (يضحك متأملاً الكتاب الذي أمامه فوق المنضدة) أقول: إن كرومنا لا تنضج حتى تستهلك العمر كله.

 

البروفيسور ألفونسو جالبيرتو آركي، مستشرق إيطالي، يحمل دكتوراه في اللغات القديمة منذ عام 1964م، وأصبح عضواً في بعثة تل مرديخ كمترجم للغة الإبلاوية، وله العديد من المؤلفات والأبحاث عن إبلا واللغة الإبلاوية قدمها في المؤتمرات وفي المراكز الثقافية في الوطن العربي وأوربا، بالإضافة لنشره ترجماته لنصوص الرقم ضمن مجلدات باللغة الإيطالية تدعى الآريتات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى