رؤى ومقالات

د. نيفين عبد الجواد تكتب :حلقة الوصل

 

يطارد السعادةَ الباحثون عنها حتى كادوا يفقدونها من فرط سعيهم طلبًا لها، ويفر من التعاسة والشقاء كلُ البشر ظنًا منهم أنهم هم الناجون؛ فلا ينجح المطارِدون للسعادة ولا ينجو الفارُّون من الشقاء. وتظل السعادة لا تصاحب إلا كل ذي كدٍ وعملٍ وتنأى عن كل عاطلٍ بلا أي عمل.

وها هو الجوع والشقاء يحيط بالفقراء في عدة بقاع من العالم بقدرٍ يظن بعده المرء أنه لم يعد فى الدنيا أثرٌ لأغنياء، وها هو أيضًا الثراء الفاحش يُزين حياة الأثرياء في بقاعٍ أخرى بزينةٍ يحسبها الرائي بلا انتهاء. وكم من فقير دهسته الحاجة لطعامٍ يشبع جوعه فلم يجد إلاَّ الفناء، وكم من ثري بخل بإنفاق ماله فيما يسعد الفقراء من بني الإنسان، فبذله بسخاءٍ على بني الحيوان ليوفر لهم حياة الكرماء التي حُرِم منها المساكين والفقراء.

ومع ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء وتفاقم الفجوة بين المساكين والأثرياء يبقى من لديهم ما يكفيهم لسد حاجاتهم ويفيض عنهم القليل لمواجهة خطوب الأيام والتصدي لنوازل الدهر هم حلقة الوصل بين من لم يفلحوا في تدبير قوت يومهم، ومن ملُّوا وسئموا من امتلاء بطونهم. فهل يظل لهؤلاء القدرة على البقاء في ظل تسابق الأسعار اليومي في ملعب الاحتكار وحلبة الجشع والاستغلال؟! أم سيكون مصيرهم هو اللحاق بإخوانهم من المساكين والفقراء مع قلة حيلتهم في توفير مصدرٍ للدخل الحلال الخالي من أية شبهة من شبهات الحرام؟!

وفي ظل ما يمر به العالم في هذه الآونة من حظر وإغلاق لأبواب الرزق اليومي الذي يفتح بيوت الكثيرين بعد كدٍ وعرق، علينا جميعًا أن نبدأ في التخلي عن الكثير من الرفاهية السابقة في سبيل تحقيق الاكتفاء لنا ولإخواننا الذين يعانون من أجل لقمة عيش واحدة تسد جوع أطفالهم. إنه التدريب الذاتي على الاستغناء طواعية وبطيب نفس من أجل الاستعلاء على كل ما لا نملكه والتضحية بما نستطيعه مما نملكه. وذلك أمرٌ لا شك صحي ومفيد لصاحبه لأنه سيعوده ليس فقط على الاكتفاء بكل قليل لديه، بل سيمنحه مناعة ضد اشتهاء كل ما ليس في يديه ويصعب عليه الحصول عليه. فنفس الإنسان إما أن يلبي شهواتها باستفاضة فلا يزداد سعير رغباتها إلا تهيجًا واشتعالًا، أو أن يكبح جماح توهجها بأناة وحِلم تارة، وقسوة إصرارٍ تارة أخرى، كي يسيطر هو عليها قبل أن تتمكن هي منه.

إنها فرصتنا لمقاومة شهواتنا وغرائزنا والصمود أمام إلحاحها قبل أن نغرق في المزيد والمزيد من كل شيء دون اكتفاء من أي شيء. فلماذا لا نطمح في الارتقاء بأنفسنا ونسعى للتطوير من ذواتنا انتصارًا للعقل على شهوات النفس وإعلاءً للروح على الجسد؟ إن ذلك الصمود سيقودنا إلى تعزيز مكانة إرادتنا الحرة خاصة إذا كان سعينا هذا نابعًا منا طواعية ولا يُفرَض علينا قهرًا.

إنه حتمًا دور الطبقة الوسطى كي تظل حلقة الوصل بين الفقراء الذين نحلت أجسادهم وأصابتها الأمراض بسبب غلو أسعار الطعام، وبين الأثرياء الذين أصابتهم التخمة فتثاقلت حركة أجسادهم وتحجرت قلوبهم وعجزت أيديهم عن البذل والعطاء. فهل ستتمكن تلك الطبقة المتآكلة من الأخذ بأيدي الفقراء للنهوض بهم، ومن عدم التمحك بالأثرياء وإتباع كل خطواتهم نحو الانقضاض على كل زينة في الدنيا للاكتناز منها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى