منوعات ومجتمع

د. محسن عبدالخالق يكتب : أستَاذِى فى الصف الثالث الإبتدائي

اليوم
يوافِق ذكرى رَحِيل أستاذى فى الصّف الثالث الابتدائى اسماعيل بك الحَداد ذلك المُعَلم
الحضارى الذى ترك فى نَفسى أثرًا لا يُمحَى ولولاه لإنحَسَر أمامى الضَوء أثناء سنوات
التكوين والوعى المُبكّر حين كنت أحاول أن أنقر قِشرة الوعى مطالبًا بحقى فى الميلاد
وإثبات الوجودى فى الحياة . كان أستاذى داخل الفصل له ضوءُ مُشعّ وأثناء الشّرح كنت
ألمَح فى عَينيه معنًا كامنًا وعميقًا من ضِياءِ الشمس ، وإلى الآن لا يزال صوته فى
أذنى  يتردّد مُشرَّبًا بالعزم وملامح فيها
شيئًا عَميقًا مُتَألقًا كالمَجد . كان أستاذى يحرص ألا يميل شراع اللغة فى يده ، وأذكر
أن هذا المُعَلم العظيم ظل فى فترة الَوثُّب يشغل رُوحِى فيما عَدا لحظات النَوم بل
وهو إلى اليوم لا يزال يعيش فى أنفاسى أينما ذهبت أو كتبت ، وهو أحد قلائل كانوا دليلى
الى فكرة التقدم منهم من عَرِفته بالحِس أكثر من الدَرس ، ومنهم من عَرفته بتجربة الحياة
وليس بمعرفة المطالعة ، هؤلاء جميعًا لا أعرف كيف أعبر لهم عن عرفانى بالفضل ، ولقد
كنت أعتبر نفسى ومازلت سعيد الحظ فى أساتذتى وأصدقائى وكتبى وتلك من نعم الله
. هناك بشر وجودُهم نَصرُ للحياة يموتون لغاية واحدة : أن يُصبِحوا بعد موتِهم
أحياء إلى الأبد . ظنى لو أنك بيننا الآن أستاذى العظيم لقلت : ” ما أمرّ اللغة  وما أضيق باب الأبجدية ” ، ها هى مسيرة التعليم
اليوم لا تسير وها هى لا تصل ولا طريقها ينتهى والمُعَلم فيها مَهزوم أمام تلاميذ تهذى
.  لقد كان غريبًا أن تعيش البلاد التى تتعامد
الشمس على روحها بدون أن ترى نفسها فى مرآة علمية . يبقى الإستفهام المُعَذّب : متى
نستطيع أن نبدد الغيوم ونصغى للأفق وهو يكتب والشمس وهى تقرأ ؟ هل تسمعنى وأنا أكاد
ألمح لحظة خُسُوف تَحس بها مِصر فى روحها ؟ . نفسى تذوب حسرة على سنوات الوعى والمعرفة
التى خَلت . مع كل ذكرى تجىء يا سيدى تتحجّر فى عينى دمعة  صَمت أذرفها من داخلى إلى داخلى أحاول أن أغالبها
لكنها فى كل مرة تغلبنى مصحوبة بصمت سهوم ودعاء أن يُبنى لك بيتًا فى الجنة .
إلا الذكرى هى التى تظل على قيد الحياة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى