رؤي ومقالات

نصر القفاص يكتب :أشرف عبد الشافى.. يا جميل ياللى هنا!!

الزحام الأجمل والأروع أبدعه “صلاح جاهين” فى أوبريت “الليلة الكبيرة” لأنه يجعلك تحب الزحام.. تستمتع به.. تتمنى أن يستمر طويلا.. ربما لأنه زحام كله أفراح.. وقد يكون باعتباره له مذاق الرواية.. أو لأنه زحام عبارة عن لوحة فن تشكيلى!!
إعتقدت أنه يصعب على أى مبدع, أن يفرض عليك زحاما بجمال وروعة الزحام عند “صلاح جاهين” حتى وجدته بين دفتى كتاب.. فهذا كتاب كما “سفينة نوح” يحمل عشرات من المبدعين.. حافل بمعلومات تم غزلها بقلم شديد التفرد.. فهو كتاب تقرأه وتشاهده وتسمعه فى الوقت نفسه.. أهدانى الكتاب مبدعه “أشرف عبد الشافى” قبل العيد بأيام.. غلافه يحمل صورة “الجبار فى إبداعه” محمد فوزى الذى كان فيضان إبداع, ونظلمه لو قلنا عنه “فنان” لأنه كان المادة الخام للفن.. كما “بليغ حمدى” الذى قدمه لكوكب الشرق “أم كلثوم” فى زمن شهد زحمة مبدعين!!
عنوان الكتاب “يا جميل ياللى هنا” وهى جملة من أغنية للجبار “محمد فوزى” وهو كان جبارا فى رقته.. كذلك صاغ “أشرف عبد الشافى” كتابه بجبروت الكلمة الناعمة.. دون أن يأخذه نزوعه إلى الكلمة كمشرط جراح كلما توقف عند أحد “السفلة والسفهاء” الذين تكاثروا وأصبحوا نجوما لزمن فرض علينا أن نضحك بدموع العين!!
حكاية “محمد فوزى” كما أبدعها “أشرف عبد الشافى” مختلفة تماما عن كل اجتهادات من يحاول أن يكتب سيرة إنسان استثنائى.. فالمؤلف اختار صناعة عقد من اللؤلؤ, تضم حباته عشرات من المبدعين بينهم المطرب والملحن والروائى والشاعر.. وحتى الراقصة.. كلمات أغانى “محمد فوزى” تحولت إلى مفاتيح تدخل بها دنيا جميلة.. تأخذك بعيدا عن الهموم والأحزان.. تغمرك بأفراح تتمنى أن تطول, وتقلق كلما قلبت صفحات الكتاب خشية أن ينتهى.. ولا مانع من أن تلعن “المؤلف” كما كنت أفعل خلال القراءة.. كنت ألعنه إعجابا وتقديرا.. وبمجرد أن انتهيت من القراءة ضبطت دموعى تسيل على خدى.. كيف بالله يكون بيننا هذا “المبدع” الذى ظلمته الصحافة.. بل قل إنتقمت الصحافة من موهبته, فجعلته مجرد صحفى كما آخرين جعلوا “الصحافة ملعونة” من أغلبية القراء!!
يدخل “أشرف عبد الشافى” فى الموضوع من أقصر الطرق, فيقرر مصارحة القارئ: “يحتاج فوزى إلى لغة ناعمة للكتابة.. يحتاج إلى رقة وحلاوة تناسب خفة الروح وجمال الطلعة.. والحروف السوداء التى تقرؤها الآن, مجرد محاولة فاشلة للتعبير عن حبى له.. فهو أحلى من الكتابة بأى لغة.. وأراهنك أن ابتسامة خفيفة ترتسم على ملامحك, كلما مر طيف من فوزى”!! ثم يأخذك إلى عالمه.. عالم “أشرف عبد الشافى” الناطق والمرسوم بكلمات وألحان “محمد فوزى” التى جعلت من “محمد مستجاب.. رومانسى”.. ثم يضعك أمام رقص “زينات علوى” وعزف “يحيى خليل” وبعدها تأخذك حالة شجن تجاه نجم نجوم كرة القدم “محمد صلاح” لأن “الخال عبد الرحمن الأبنودى” غادرنا قبل أن يحتفى به.. لكنه يقدم سردا لحوار سبق أن أجراه مع “الأبنودى” ضمن سلسلة حوارات مع أدباء ومثقفين حول علاقتهم بكرة القدم.. هنا لابد أن أتوقف لأصدمك بأن “أشرف عبد الشافى” عاش فترة كصحفى فى مجلة “الأهرام الرياضى” وحافظ على تشجيعه للزمالك!!
وقد لا يعرف كثيرون أن “الأستاذ” نجيب المستكاوى بدأ حياته العملية بترجمة كتاب “أزمة الضمير الأوروبى” الذى قدم له “عميد الأدب العربى” طه حسين.. وقال عنه “صاحب نوبل” نجيب محفوظ أنه أديب ضل طريقه إلى الرياضة.. لكن هذا الزمان كان يسمح لكل مبدع أن يصمد.. يتألق.. ينال نصيبه من الشهرة والاحترام.. عكس الزمن الذى ظلم “أشرف عبد الشافى” وأمثاله من المبدعين!!
كتاب “يا جميل ياللى هنا” حافل بزحام رهيب من الحكايات والذكريات والمعلومات.. بعضها قد يدهشك أن تعرفه.. فقد اختار المؤلف أن يتوقف عند “يوسف إدريس” ليقدم حكاية وزير ثقافة تمتع بسطحية وسذاجة لا تخطئها عين.. لنا أن نتصور مقالا نشرته “الأهرام” بقلم “عبد الحميد رضوان” وزير الثقافة آنذاك يقول فيه عن “يوسف إدريس” أنه: “كاتب مخدور.. مفكر بلورى.. ذى نفس مريضة وقلم مسعور”!! وكان هذا “الردح” ردا على مقال “أهمية أن نتثقف يا ناس” المنشور يوم 9 يوليو عام 1984, وكان يطالب بإنقاذ الثقافة من تدهورها!! فما بالنا لو عاش “يوسف إدريس” ليشهد ما نراه ونعيشه من عبث يتولاه “شوال الرز” القاطن فى “الرياض” والذى يستمتع بتحويل الفنانين والإعلاميين إلى “أراجوزات” فقدت القدرة على أن تدهشنا!! ولم ينس “المؤلف” أن يذكر القارئ بأن “يوسف إدريس” لجأ للقضاء متهما وزير الثقافة بالقذف والتشهير.. وأن محكمة جنوب القاهرة حكمت بإدانة الوزير, وقضت بتغريمه بمبلغ عشرين ألف جنيه, ونشر حيثيات الحكم على صفحات “الأهرام” على نفقة “محمد عبد الحميد رضوان” الشخصية!! وبهذه “الرقة” قدم “الجبار فى رقته” الذى هو المؤلف – أشرف عبد الشافى – حكاية تجعلك تصرخ “يا نافوخى” لتسأل عن المسافة بين التدهور الذى حذر منه “يوسف إدريس” وما وصلنا إليه!!
عشت مع “أشرف عبد الشافى” أربع ساعات مستمتعا على ضفاف “نهر محمد فوزى” بحكايات عن الشيخ “مصطفى اسماعيل” والمثقف الحزين “صلاح السعدنى” وحكايات “محمود مرسى” و”شريهان” و”زكى طليمات” و”وعلاء الديب” و”إبراهيم أصلان” وعمنا “خيرى شلبى” وحكايات أخرى عن “صبرى فواز” والدكتور “سيد عويس” و”نزار قبانى” و”صلاح عبد الصبور” وباقى قافلة المبدعين العظام الذين جمعهم صوت وألحان “محمد فوزى” بطل الحكاية الذى جعله فخورا بأنه عاش هذا الزمان!!
أعترف بأن الكتابة عن “مبدع” مثل “أشرف عبد الشافى” مسألة صعبة.. خاصة أننى عرفته منذ أن طرق أبواب الصحافة التى كانت “صاحبة الجلالة” قبل أن يعبث بمقدراتها صغارا احتلوا مقاعد الكبار.. وظنى أن خشيتى البكاء لعدم الاحتفاء به, ترجع إلى نظرتى المتفائلة جدا بمستقبل يأخذنا من هذه “العتمة” وإن طالت.. لكن لا مانع من أن أرجوه مراجعة حكاية تأميم شركة “مصر فون” والذى حدث بسبب الشركاء من “بلجيكا”.. كما أتمنى منه مراجعة ما وصفه بأنه “إعلام أحمد سعيد” ولعلى أدله على مذكرات “سيد مرعى” وعنوانها “أوراق سياسية” ليعرف منها حجم وتأثير “أحمد سعيد” وقدراته التى تعرضت للتشويه كما كل شئ فى “زمن محمد فوزى” الذى فشلت كل محاولات شطبه من ذاكرتنا!!
خشيت أن أعبر عن حالة السعادة والنشوة والفرح بزحام كل هؤلاء المبدعين, دون أن أتوقف عند المشاغب “عبد الحميد أفندى الديب” الذى سحقه “زمن الملكية” فجعله يعيش فى ألم وبؤس وفقر رغم أنه كان مبدعا كبيرا.. وقد أنصفه المجلس الأعلى للثقافة بدراسة عنه مع أعماله الكاملة التى حققها “محمد رضوان” وقدمها “فاروق شوشة” وحكايته تجعلنى أتذكر رائعة “نجيب محفوظ” التى قدمتها السينما بعنوان “القاهرة 30” لدرجة أن بطلها “محجوب عبد الدايم” أصبح عنوانا لمرحلة أعادتنا إلى “مأساة عبد الحميد الديب” المبدع الذى أكرمه التاريخ!!
نصر القفاص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى