
قراءة نقدية في نص” الأيام تعاندني “للشاعرة زينب هزيمة –
من إنجاز فاطمة عبدالله
#جمالية الانكسار وتفكيك الذات في قصيدة “تعاندني الأيام”
قراءة نقدية في بنية الحنين والغياب .
تمثل هذه القصيدة نموذجاً للشعر الحر المعاصر الذي يعبر عن الذات عبر مسارات غير تقليدية، تتكئ على الغموض البناء، وتفكك الزمن الخطي، وتفتح أفقاً دلالياً متشظياً يحمل سِمات ما بعد الحداثة.
جمالية التشكيل الشعري: تفكيك البنية الشكلية والأسلوبية
تحليل معمق في شعرية الإيقاع الداخلي، وتحرر البنية من سلطة النمط العروضي، لصالح البنية الموسيقية الذاتية والانزياح الدلالي.
حيث تنتمي القصيدة إلى فضاء الشعر الحر، حيث تتحرر من قيود الوزن والقافية، لتعلي من شأن الإيقاع الداخلي و “التعبير الشعوري الحر.
كما أن البنية اللغوية تتسم بكثافة عالية من الصور والانزياحات والتكرار، مما يمنح النص طابعاً غنائياً موسيقياً.
نلحظ استخدام الشاعرة لأسلوب التقطيع المشهدي المتتابع، بحيث لا تخضع الأسطر لترتيب سببي أو منطقي، بل تسير وفق التدفق الوجداني، كما في:
“هذي حروفي في عينيك نائمة / بشفاهك كم تمتمت أحلامي”
هذا البناء يذكرنا بما يسميه عبد الله الغذامي في تحليله للبنية الحداثية بـ”تفكك النظم الخطابية” لصالح المشهدية المتجاورة، أو ما يمكن تشبيهه بـ”المونتاج الشعري” الذي يعد من أبرز تقنيات ما بعد الحداثة في تفكيك الزمن الخطي وبناء المعنى عبر لقطات شعورية متجاورة.
تشظي الزمن وتفكك الذات: البنية الدلالية للحنين والغياب
قراءة في دينامية المعنى من خلال سردية الذات المنكسرة، وتموضع الحنين كأفق وجودي يتجاوز الخطية الزمنية، ويؤسس لجدلية الحضور والغياب.
تتمحور الدلالة حول ثيمة الحنين التي تفكك الزمن الخطي، وتظهر الذات المنكسرة في محاولة الإمساك بالماضي عبر الموسيقى والذكرى. يتجلى ذلك بقول الشاعرة :
“بالأمس غنيت أيامي / ومن سوف يغنيني”
هذه الثيمة تبنى من خلال صور متراكبة توحي بالتصدع الداخلي، والانفصال بين الذات والعالم، بين الحضور والغياب، وبين الرغبة والخذلان. ويبرز الحب ليس فقط كمشاعر إنسانية، بل كقيمة وجودية تتقاطع مع الألم والفقد والانكسار.
الحقول الرمزية وآليات الترميز: شعرية الغياب وتكثيف المعنى
تفكيك الرموز الشعرية بوصفها آليات إنتاج الدلالة وتوسيع أفق التأويل. تعمل الرموز مثل ‘النوافذ’، و’الأغنية’، و’الأنامل الخرساء’ كجسور بين الحسي والميتافيزيقي، منتجة دلالات متراكبة تتجاوز المعنى المباشر.
منها على سبيل المثال:
“النوافذ” التي تتحول إلى ممرات بين الوعي واللاوعي، أو بين الداخل والخارج:
“هو الصبر نافذتان / هو العمر محطتان / أي النوافذ قد مهدتني؟”
“الأغنية” ليست صوتاً فقط، بل كينونة تحيا وتثور تخبو، في رمزية للوجود العاطفي المهدد بالاندثار:
“أغنية لا تلبث أن تثور / خلف بريق يشحن ألماً ”
“الأنامل الخرساء” رمز لانقطاع التواصل، وغياب الفعل/اللغة/التعبير.
تعمل هذه الرموز ضمن شبكة لغوية تذكر بأسلوب الشعراء الحداثيين مثل أدونيس وأنسي الحاج، حيث لا تمنح المفردات دلالة ثابتة، بل تركب ضمن بنية سياقية متحركة.
جمالية التعدد والتأويل: شعرية ما بعد الحداثة وتمرد المعنى
النص باعتباره فضاءً تأويلياً مفتوحاً، يتقاطع مع مفهوم “انفجار الدلالة” عند رولان بارت، حيث تُلغى مركزية الصوت الأحادي لصالح التعدد النصي.
رولان بارت حين يصرح بأن:
“إن النص الحديث هو نسيج من الاقتباسات، يمزق وحدة الصوت ويزرع التعدد في صلب اللغة، ليجعل من المعنى فعلاً مستحيل الاكتمال.”
(بارت، لذة النص).
هذا ما نجده جلياً في قصيدة” تعاندني الأيام”حيث لا تسعى الشاعرة إلى قول المعنى، بل إلى إنتاجه كحالة تأملية مفتوحة، تسمح بتعدد التأويلات و تفكك وحدة الصوت الشعري التقليدي.
النزوع الصوفي والتجربة الوجودية: الحب كميتافيزيقا شعرية
معالجة البنية العرفانية في النص من خلال مفردات التوق والانجذاب، حيث يتحول الحب من تجربة شعورية إلى أفق كوني يتقاطع مع مفهوم الفناء الصوفي.
يتضح ذلك في بنية الشوق والانجذاب، حيث تتحدث الشاعرة عن ذات تنجذب نحو “الآخر” في صورة شبه مطلقة:
“أنا منبع الشوق يرنو في داخلي / حملتني نحو جوارك آهاتي”
هذا التوق يشبه النزوع الصوفي للاتحاد بالمطلق، ويجعل من المحبوب رمزاً كونياً ، وليس مجرد ذات محسوسة.
كما تستعمل الشاعرة مفردات تحيل إلى صمت اللغة وعجزها عن التعبير عن الوجد، كما في:
“ما بال الأنامل خرساء”
“بشفاهك كم تمتمت أحلامي”
وهذه اللغة القريبة من التمتمة الصوفية، تعكس ذلك الوعي بأن التجربة الشعرية، كالتجربة الصوفية، تتجاوز حدود التعبير.
القصيدة تتحرك أيضاً بين البعد الجسدي والروحي بانسجام يوحي بـ”وحدة الوجود” الشعورية، وهو ما نراه في قولها:
“أغفو على أمواج اللحن / أحدق عمقاً في صور العشق”
في هذه العبارات، تدخل الذات في حالة ذهنية أقرب إلى الوجد الصوفي، حيث يلتقي الحب بالمطلق، وتتحول التجربة إلى تأمل داخلي في معنى الكينونة والغياب والحضور.
محايثة النص الصوفي: تفاعلات بين الحداثة والتصوف الكلاسيكي
دراسة تداخل البنى الدلالية بين نص” تعاندني الأيام “وأشعار الحلاج وجلال الدين الرومي، في ضوء وحدة التجربة الجمالية والانخطاف الوجداني نحو المطلق.
في تأمل بنية الحنين والشوق والوجد في قصيدة تعاندني الأيام يبرز تقاطعها مع ملامح مركزية في شعر التصوف الكلاسيكي، وتحديدا لدى الحلاج وجلال الدين الرومي، لا من حيث الشكل، بل من حيث المضمون الروحي والانفعالي.
عند الحلاج، نجد مثالاً صريحاً على تجربة الاتحاد والانمحاء في قوله:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحانِ حللنا بدنا
هذه الأبيات تعبّر عن اندماج تام بين المحب والمحبوب، كما لو أن الحب يمحو المسافة بين الذات والآخر. وبالمثل، تكتب الشاعرة زينب :
“أمشي إليك، تسبقني أشواقي”
“أنا منبع الشوق يرنو في داخلي”
هذا التوازي يدل على وعي شعري صوفي مشترك، حيث لا يُرى الحبيب كفرد، بل كقيمة كونية تُختزل فيها الذات.
أيضا التوازي مع جلال الدين الرومي يظهر في النص دلالة الانغماس في التجربة الروحية، مشيراً إلى وحدة الوجود والشوق المطلق، متماشياً مع صور الرومي كما في:
“أغفو على أمواج اللحن / أحدق عمقاً في صور العشق”
ما يدل على تقارب الفكر الشعري بين الحداثة والتصوف.
في كلتا التجربتين، يتحول الألم والفراق إلى طاقة شعرية روحية كاشفة، والقصيدة إلى وسيلة لكشف ذاتي ووجودي.
قصيدة “تعاندني الأيام “تتوازى مع التصوف في عمق رؤيتها الشعرية الوجودية، حيث يصبح الحب طريقاً للمعرفة، والحنين تجربة كشف، والفقد امتداداً للرغبة في الاتحاد .
التفكيك وإعادة التشكيل: نحو حساسية شعرية جديدة.
تنتمي القصيدة إلى فضاء “ما بعد القصيدة”، حيث يُعاد تشكيل المعنى عبر تفكيك الموروث البلاغي وتكثيف اللحظة الشعورية بوصفها فعل مقاومة معرفية وجمالية. كما تمثل نموذجاً للحداثة الشعرية الحرة، إذ لا تعتمد على القوالب التقليدية، بقدر ما تؤسس لحساسية شعرية جديدة تتغذى من الغموض، وتمارس الحفر البنيوي في الذات عبر بنى سردية وانفعالية متقطعة.
الشعرية النسوية وحداثة الصوت الأنثوي : تأتي قصيدة “تعاندني الأيام” في سياق الشعر النسوي المعاصر، الذي لا يكتفي بإعادة إنتاج الصور العاطفية التقليدية، بل يُعيد مساءلة تمثيلات الذات الأنثوية، عبر بنية لغوية مشبعة بالوجد، والانكسار، وتمرد ناعم على أنساق التعبير الذكوري المهيمنة.
تُفعل الشاعرة أدوات الحنين والغياب بوصفها آليات تفكيك للواقع، حيث تعيد تشكيل علاقتها بالعالم، لا انطلاقاً من مركزية ذاتية مغلقة، بل من خلال وعي وجودي ينفتح على كونية التجربة الشعورية.
يمتزج الخطاب الأنثوي في النص بحساسية ما بعد حداثية، تشظي المعنى، وتُعلي من رمزية التفاصيل، وتُعيد إنتاج اللغة كأفق تأويلي متحرك، لا يركن إلى الاستقرار أو المباشرة.
تُسهم القصيدة بذلك في توسيع أفق الشعر الحر العربي، من حيث الشكل والمحتوى، إذ تتحرر من القوالب الكلاسيكية، وتعتمد بدلاً منها بنية انسيابية تتقاطع فيها الذاتي بالكوني، والوجداني بالرمزي، في إطار شعري ينتمي إلى شعرية الانفلات من مركزية المعنى.
بهذا، يتحول النص من كونه بوحاً ذاتياً إلى إسهام فاعل في صياغة خطاب شعري نسوي جديد، تتقاطع فيه التجربة الخاصة مع البُنى الجمالية المعاصرة، منتجةً حساسية شعرية متجددة تتجاوز الفردي نحو الكوني، وتُسائل الموروث البلاغي ضمن أفق نقدي وجمالي حداثي.
إن جمالية النص تكمن في هشاشته، و في قدرته على الإمساك بلحظة الانكسار دون أن ينهار وعلى تقديم تجربة الحب كفقد دائم وشوقاً لا يروي.
النص:
تعاندني الايام
ساعة الفراق تدور
اغنية تبدع في
أشيائي تارة
وتارة تغيب
يئن الجسد
تبكي كل احداق الحياة
وانا ما زلت احبو
اغفو على امواج اللحن
احدق عمقا في صور العشق
هو الصبر نافذتان
هو العمر محطتان
اي النوافذ قد مهدتني
بالأمس غنيت ايامي
ومن سوف يغنيني
هذي حروفي في عينيك نائمة
بشفاهك كم تمتمت احلامي
اقترب يبتعد
ابتعد يقترب
اغنية لا تلبث ان تثور
خلف بريق يشحن الما
ما بال الانامل خرساء
دوي واحد يجمعنا
وحينما يدق الوجع المر يفرقنا
ابث اليك اشجاني
ومن وجعي
ماذا اسمي لوعتي وانحنائي
انا منبع الشوق يرنو في داخلي
حملتني نحو جوارك آهاتي
امشي اليك تسبقني اشواقي
الشاعرة: زينب هزيمة