شريف يونس يكتب :”لو دامت لغيرك ما وصلت إليك”

الحكمة دي بتقول باختصار الكل باطل وفاني، أو بتقول: مبروك الانتصار، لكنه مؤقت محدود. المعاني اللي ممكن استنتاجها من الفكرة كتيرة، لكن كلها تتضمن إن فيه شيء ما (مش محدد مشار إليه بالضمير المستتر “هي”) ثابت في جوهره وقيمته، ينتقل من جيل إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى. والسيرورة ما هي إلا عمليات استيلاء متتالية على الشيء نفسه (والمقصود هو السلطة). الافتراض الضمني هو أنه لا جديد تحت الشمس، ولا بناء يمكن أن تبنيه البشرية، ولا السلطات المتتالية تُسهِم في بنائه، ولا معنى لميراث الماضي سوى الاستيلاء عليه، استيلاء محدود القيمة لأنه مؤقت زائل. دي عقلية القبائل الغازية اللي بالنسبة لها بلاد الحضارة غنيمة، تؤول إليها وتزول عنها.
منظور الحضارة، خصوصا الحضارة الحديثة مختلف كثيرا. ما نتسلمه من القدماء، أو “نستولي عليه”، لا نسلمه كما هو، بل نضيف ونحذف ونغير، وذلك لأن الحياة نشاط، و”التمكين” أو “التمكن”، أو “الاستيلاء”، وبصفة عامة الحيازة، ليست سوى شرط من شروط النشاط. لا بد أن أحوز ما يمكنني من نشاط ما، والغرض من الحيازة هو ممارسة الحياة، النشاط، والنشاط مُنتِج. لا بد أن “نستولي” على علوم الماضي (بمعنى أن نستوعبها) لكي نستطيع أن نضيف إليها أو نعدل فيها أو حتى ننتقدها. وحين ننتقدها لا يكون معنى ذلك أنها انتهت.. بل هي كامنة داخل هذا النقد، والنقد مدين لوجودها من الأساس لولا نيوتن وعلماء عصره، ما كان أينشتاين وعلماء عصره (بعبارة أخرى، عكسية، لولا أنها وصلت لمن سبقوك ما وصلت إليك على هذه الصورة).
السلطة، التي هي الموضوع الضمني لهذه الحكمة، ليست استثناء. السلطة في الحضارة لا معنى لها إلا بوصفها مُنتِجة، وبوصفها شرطا من شروط إنتاج الحياة الاجتماعية، لا مجرد “ملكية” تحوزها قبيلة أو تحالف قبلي أو يحوزها قائد فرد بالسلاح كما في تصورات العصور الوسطى. لذلك نقول مثلا: محمد علي باني مصر الحديثة. اتفقنا أو اختلفنا حول محمد علي أو حول بناء مصر الحديثة مسألة ثانوية. المسألة الجوهرية إننا أصبحنا نعتقد أن السلطة تبني أو يجب أن تبني.
الفرق بين التصورين القديم والحديث هو الفارق بين افتراض وجود معنى للحياة والنشاط والمجتمع والبشرية، واعتبار ذلك مناط القيمة والأخلاق والسياسة (التصور النابع من الحضارة)، وافتراض أن هذا كله باطل أو كالباطل، ودعوة الناس للتقوى والاعتدال، إلخ، انطلاقا من فكرة انعدام قيمة الحياة في حد ذاتها (لأن القيمة الوحيدة هي العمل من أجل الخلاص الفردي في الآخرة). الافتراض دا يحمل صورة عن الخير تراه كبحا لشهوة الحكم، وبالتالي يدور التصور فيها بين قطبين: الشهوة والتقوى.. الجموح الأناني والاعتدال الأناني، من منظور غير دنيوي من الأساس. هنا لا مكان للحضارة إلا كغنيمة زائلة.