كتاب وشعراء

ليلي و الثعبان…ادريسي خديجة

ليلى و الثعبان
كانت ليلى فتاة مرحة، مفعمة بالحياة، متفائلة كشروق الشمس بعد ليلة باردة، تبعث الدفء في كل من حولها. تعيش حياتها بأمل لا ينضب، وابتسامة كضوء الصباح لا تفارق وجهها البشوش. طموحها يفوق خيال الجميع، كشجرة تمتد جذورها عميقا في الأرض، لكنها ترفع أغصانها نحو السماء بلا خوف، لا حدود لأحلامها. تستيقظ كل يوم وكأنها على موعد مع مغامرة جديدة، تملؤها رغبة عارمة في اكتشاف العالم من حولها. أحبت الحياة بكل تفاصيلها، وكان يحيط بها أصدقاء يحبون تفاؤلها ،وحيويتها ، وقوة شخصيتها، وطريقتها الفريدة في التعامل مع الحياة، وكأنها ولدت لتتحدى الصعاب .ترى في كل تحد فرصة، وفي كل عثرة درسا يقودها نحو الأفضل.
كانت تضيء أي مكان تتواجد فيه بابتسامتها التي تجدب الأنظار، وقلبها الكبير الذي لا يعرف سوى العطاء.
في يوم عادي داخل حرم الجامعة، كانت ليلى تسير كعادتها بخطوات واثقة بين أروقة المبنى، تحمل كتبها بين يديها وعيناها مليئتان بالتفاؤل والأحلام الكبيرة.
لفت انتباهها شيء صغير يتحرك ببطء تحت شجرة بعيدة. اقتربت بحذر لترى ثعبانًا صغيرًا ملقى على الأرض، جسده مغطى بالجروح، وحركته تكاد تكون معدومة.رغم أن الثعابين كانت تُخيف الكثيرين، إلا أنها رأت فيه شيئًا مختلفًا. كان صغيرًا، هشًا، وكأنه يطلب النجدة بعينيه اللامعتين. دون تردد، خلعت وشاحها برفق، ولفته حول جسد الثعبان.
همست له بصوت ناعم:
“لا تخف، سأعتني بك.”
كانت ليلى روحًا نقية، تمنح بلا مقابل، ترى الخير في الآخرين، وتؤمن بأن الحب والتضحية قادران على تغيير أي شيء. احتضنت الثعبان، كما لو كان طفلًا يحتاج إلى الرعاية،وبدأت تعتني بجروحه بصبر وحنان، متجاهلة فكرة أن هذا الكائن يمكن أن يشكل خطرًا على حياتها. بالنسبة لها ،لم يكن سوى كائن ضعيف يحتاج إلى الدفء والاهتمام، فوهبته روحها الطيبة. لكنها لم تكن تدرك أن بعض الكائنات، مهما منحتها من حب، لن تتغير، ستظل تنفث السم في كل مكان، و ستأخذ منك أكثر مما يمكنك تحمله.
بمرور الأيام، بدأ الثعبان يستعيد عافيته. كلما نظرت إليه، شعرت أنها أنقذته من موت محقق، شيئا فشيئا نشأت بينهما علاقة غريبة.
أصبح يعتمد عليها كليًا، يراقب يدها الحنونة وهي تضمد جروحه، ويستشعر دفئا لم يعرفه من قبل. مند البداية ، لم تكن العلاقة بينهما متكافئة، ليلى كانت المعطاءة، الحامية، الأم التي تداوي الجراح دون انتظار مقابل. لم تفكر أبدًا في أن هذا الكائن قد يعود إلى طبيعته المسمومة، بل كانت ترى فيه مخلوقًا مسالمًا، عاجزًا عن الأذى.
كانت تحدّثه كما لو كان يفهمها، تهمس له بكلمات مليئة بالدفء، تحمله بين يديها بلطفٍ كلما شعرت أنه يحتاج إليها. مع مرور الوقت، لم يعد الثعبان مجرد ضيفٍ في حياتها، بل أصبح جزءًا من يومها. كانت تحمله في حقيبتها، تخاطبه وكأنه رفيقٌ صامت، تحرص على ألا يشعر بالبرد، تطعمه بيديها، وتطمئن عليه قبل أن تنام.
في لحظات الصمت، كانت تنظر إلى عينيه، تلك العيون الحادة التي تحمل شيئًا غامضًا. ومع ذلك، شعرت بشيء يشبه الامتنان، وربما… الحب. لم تكن تعرف كيف أو متى، لكن هذا الكائن الصغير أصبح جزءًا من حياتها، وكأنهما خُلقا ليكملا بعضهما.
كان يمنحها الشعور بالأمان، وكأنها وجدت أخيرًا كائنًا يفهمها كما لم يفعل أحدٌ من قبل. كان يصغي إليها بصمتٍ عميق، يتواجد حيث تحتاجه، لا يحكم عليها، ولا ينتقد قراراتها. كان يخلق لها عالمًا بديلًا، عالمًا هادئًا، خاليًا من صخب الخارج، مغلقًا عليهما فقط.
بمرور الوقت، بدأ شيء غريب يحدث …لم تعد هي من تتحكم في متى يكون بجانبها، بل أصبح هو الذي يحدد ذلك. لم يكن الثعبان يبتعد عنها أبدًا ،و لم يكتف بالبقاء قريباً، بل صار يزحف حولها في كل مكان، يلتف حول معصمها، يتمدد بجانبها على السرير، وكأنه يريد أن يكون محيطها الوحيد. حتى عندما حاولت الابتعاد عنه لبعض الوقت، وجدته يعود مسرعًا ،وكان المسافة بينهما لم تعد خيارا.
ذات يوم، بينما كانت ليلى تقضي وقتها مع صديقتها المقربة في المقهى، شعرت بشيء يتحرك بالقرب من حقيبتها. نظرت لتجد الثعبان قد زحف إليها دون أن تنتبه، وكأنه أراد التأكد من أنها بخير. ضحكت ليلى قائلة:
“أنت لا تستطيع العيش بدون مراقبتي، أليس كذلك؟”
صديقتها شعرت بعدم الارتياح وقالت:

“ألا تشعرين أن هذا الثعبان… غريب؟ وكأنه لا يريدكِ أن تكوني مع أحد غيره؟”
ابتسمت ليلى ببرود: “إنه مجرد ثعبان صغير، لا تبالغي.”
لكن صديقتها لم تقتنع: “لا أعلم… لكنني أشعر أنه يسيطر عليك بطريقة ما، وأنتِ لا تلاحظين.”
تجاهلت ليلى كلمات صديقتها، لكن بقيت تتردد في عقلها ، حتى بعد مغادرتها المقهى.
هي تدرك أن الثعبان أصبح جزءًا كبيرًا من حياتها، لدرجة أنه يمنعها من التركيز على أي شيء آخر. لكن كانت تعتقد أنه بحاجة إليها، لكن شيئًا ما بداخلها بدأ يتساءل: هل هي من تحتاج إليه الآن؟
في إحدى الليالي، بينما كانت ليلى تجلس على سريرها، غارقة في التفكير في ماضي الثعبان ، لاحظت شيئًا غريبًا. كان الثعبان يحدق في صورة قديمة على طاولتها، صورة لها مع أصدقائها قبل أن تلتقي به. لم يكن هناك شيء خاص في الصورة، لكنها لاحظت أن عيناه أصبحتا أكثر حدة. فجأة، تحرك نحو الصورة بسرعة غير متوقعة وأسقطها أرضا، كما لو أنه يحاول محوها من حياتها.
كان يحيطها برعايته، لكنه في الوقت نفسه كان يعزلها. لم يكن يمنعها من رؤية أصدقائها صراحةً، لكنه كان يغمرها بشعورٍ من عدم الراحة كلما حاولت الابتعاد عنه. في كل مرة كانت تخرج، كان يراقبها بصمتٍ، وحين تعود، كان يلتف حولها بحنانٍ مزيف، وكأنه يعاقبها بحضورٍ ثقيل لا يحتاج إلى كلمات.
استيقظت ليلى في إحدى الليالي على مشهد لم تعهده من قيل . وجدت الثعبان ممتدًا عبر الغرفة بأكملها،جلده اللامع ينعكس مع ضوء القمر المتسلل من النافذة، وعيناه تلمعان بحدة غريبة. لم يعد ذلك المخلوق الصغير الذي احتضنته ذات يوم بحجم دراعها ، بل أصبح ضخماً، يملأ كل زاوية، كأن الغرفة لم تعد تتسع لكليهما. حاولت التحرك، لكن إحساسًا غير مريح انتابها، وكأن الهواء أصبح ثقيلًا بفعل وجوده.
رغم ذلك ،كانت سعيدة ،لانها كانت دائما تشجعه على النمو، تقول له دائمًا:
“أنت تحتاج أن تصبح أقوى وأكبر،سيكون لديك الكثير من القوة عندما تكبر.”
كانت تلك الكلمات تخرج منها بغريزة، لكنها لم تدرك في تلك اللحظة أن الثعبان لم يكن فقط يكبر جسديًا، بل كان يتغير على المستوى النفسي أيضًا. كان يقترب منها أكثر فأكثر، ولا يفارقها اكثر من السابق،و يتصرف وكأنه لا يستطيع العيش إلا بوجودها.
تسلل الثعبان إلى كل زاوية في حياة ليلى، ممتدًا في مساحاتها الخاصة حتى لم يعد هناك مكان لها وحدها. لم يعد بوسعها الابتعاد عنه، كلما حاولت شعرت بقوة خفية تشدها إليه. شيئًا فشيئًا، تلاشى الفاصل بين “أنا” و”نحن”، وأصبحت ترى الحياة من خلال عينيه. لم تكن تدرك أنها لم تعد تفكر بحرية، بل كانت تردد أفكاره كما لو كانت أفكارها، تتبنى قناعاته وكأنها قناعاتها. لم يكن يحتاج إلى إجبارها، فقد استطاع تشكيلها ببطء، تمامًا كما يأخذ الماء شكل الإناء الذي يُسكب فيه. حتى باتت مجرد انعكاس له، ما افقدها هويتها دون ان تشعر بذلك.
ذات يوم، واجهتها صديقتها المقربة بقلق:
– “ليلى، ما الذي يحدث معك؟ لقد اختفيتِ عن الجميع، حياتك تدور حول ذلك الكائن فقط.”
لكن ليلى ابتسمت بثقة، وكأنها لا ترى المشكلة:
– “لا أحد يفهم ما بيننا. إنه يعتمد عليّ… وأنا أحتاجه.”
ببطء، أصبحت حياتها تدور داخل جدران غرفتها، تلاشى العالم من حولها، حتى لم يعد للناس معنى في وجود الثعبان.
رن هاتفها للمرة العاشرة ذلك اليوم، نظرت إلى الشاشة لترى اسم صديقتها “مريم”. حدقت في الاسم للحظات، ثم أغلقت الهاتف دون إجابة. كانت تعرف أنهم قلقون عليها، لكنها لم تعد تشعر بالحاجة إلى التحدث إليهم.
. لم يكن يأمرها بالابتعاد، لكنه أغرقها في شعور خفي بأن الآخرين لا يفهمونها، بأنهم خذلوها، وبأنه الوحيد الذي سيظل بجانبها دائمًا.
لم تكن كلماته أوامر صريحة، بل همسات تسللت إلى وعيها، تتكرر حتى بدت كحقائق لا تقبل الشك:
– “لماذا تحتاجين إلى الآخرين؟ ألم يخذلوك جميعًا؟”
– “أليس من الأفضل أن تبقي مع من يفهمك حقًا؟”
– “العالم قاسٍ، لا أحد سيحبك كما أفعل أنا.”
لم يكن بحاجة إلى فرض السيطرة بالقوة، بل كان يستعمل أسلوب “الهيمنة الناعمة”، حتى أنها لم تعد تدرك أنها خاضعة.
لم تلاحظ ليلى متى أصبح الثعبان مركز حياتها الوحيد. كان وجوده يملأ يومها بالكامل، حتى بدأ أصدقاؤها بالاختفاء واحدًا تلو الآخر، بعدما توقفت عن الرد على مكالماتهم أو تلبية دعواتهم. في البداية، كانوا يصرون على دعوتها للخروج، لكنها كانت تعتذر دائمًا. بعد فترة، توقفوا عن المحاولة، وكأنهم فهموا أن ليلى أصبحت تنتمي لعالم آخر… عالم صنعه الثعبان وحده.
لم تكن تشعر بالوحدة، فقد كان الثعبان دومًا بجوارها، يمنحها إحساسًا خادعًا بالكمال.
ذات يوم، بينما كانت ليلى في المكتبة التي لم تزرها منذ مدة طويلة بسبب انشغالها بالاعتناء بالثعبان، فوجئت بصوت مألوف يناديها. التفتت لتجد صديقها يقف أمامها، ينظر إليها بقلق.
– “ليلى! كيف حالك؟ أين كنتِ طوال هذه المدة؟ لم نعتد على غيابك عن المكتبة.”
ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت:
– “أنا بخير، لا داعي للقلق.”
لكن صوته حمل نبرة شك وهو يجيبها:
– “لا يبدو أنكِ بخير… أين ليلى المفعمة بالحياة؟ لقد تغيرتِ منذ أن وجدتِ ذلك الثعبان.”
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت بنبرة دفاعية:
– “لا تبالغ، أنا بخير تمامًا.”
نظر إليها مطولًا قبل أن يهمس بجدية:
– “هل أنتِ متأكدة أنكِ تعرفين كل شيء عن ذلك الكائن؟ ليلى… إنه لا يعتني بكِ، بل يستهلكك.”
تجمدت الكلمات في حلقها، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها. رمقته بنظرة متوترة قبل أن ترد بصوت منخفض:
– “أنت لا تفهم…”
تركها مع كلماته التي بدأت تتردد في ذهنها كصدى يصعب إسكاته، أدركت ليلى أن شيئًا ما كان يربطها بهذا الثعبان أكثر مما كانت تعتقد.
لم يكن حبه لها مجرد صدفة،بل كان هناك سر مظلم، سر قد يغير حياتها إلى الأبد.
في إحدى الليالي، بينما كانت تحدق في سقف غرفتها المظلم، شعرت بأنها أصبحت غريبة عن نفسها. همست لنفسها:
“متى أصبحت هكذا؟ أين ليلى التي كانت تحلم وتسعى وتحب الحياة؟”
أدركت حينها أن علاقتها بالثعبان لم تكن قائمة على الحب، بل على السيطرة. لم يكن كائنًا هشًّا كما ظنت، بل كان ذكياً وبارعا في التغلغل داخل عالمها، حتى باتت تعتقد أنه جزءٌ لا يتجزأ منها.
فهمت ليلى اخيراأن تعاملها مع الثعبان لم يكن حنانًا غريزيًا، بل كان تنازلًا متدرجًا عن ذاتها. لقد سمح لها أن تعتقد أنها ما زالت تملك القرار، بينما كان يوجه قراراتها من خلف الكواليس، كما تحرك الدمى بخيوط غير مرئية. منحها شعورًا زائفًا بالأمان، لكنه في الحقيقة كان يسلبها حريتها ببطء، بدقة متناهية، حتى لم تعد قادرة على التمييز بين إرادتها وإرادته.
رغم هذا الإدراك، لم يكن التحرر سهلاً. فكما يختبئ الكثيرون في أوهام مريحة، كانت ليلى قد اعتادت سجنها. تمامًا كما في “متلازمة الكهف” التي تحدث عنها أفلاطون، حيث يعتاد السجناء على رؤية الظلال، حتى إذا تحرروا، أصابهم الضوء الحقيقي بالخوف.
بالنسبة لليلى، كان الثعبان كهفها. منحها شعورًا بالحماية، لكنه أيضًا قيّد حريتها. ولهذا، حين بدأت ترى حقيقته، لم تهرب فورًا، بل شعرت بالضياع. كانت تدرك أن التحرر ممكن، لكن صوتًا في داخلها تساءل: “ماذا لو كنت مخطئة؟ ماذا لو كان العالم خارج هذا الإطار أكثر قسوة؟”
كلما فكرت في التراجع، بدا وكأن الثعبان يستشعر شكوكها. كان يلتف حولها برفق، ثم يشد قبضته قليلاً، وكأنه يذكرها بأنه هنا، وأنها تخصه. لم يكن بحاجة إلى إجبارها، فقد صمم عالمها وفقًا لقواعد غير مرئية، حيث تسير كما يتوقع منها، لا كما تريد. بات التفكير خارج حدوده مستحيلاً، لأن أي محاولة للاستقلال كانت تعني التمرد، وأي اختلاف يعد خيانة. ولهذا، كانت تبذل جهدها لنيل رضاه، تتشكل وفق مقاييسه، وتعيد تشكيل أفكارها وسلوكها حتى تصبح انعكاسًا له، لا لنفسها.
تحولت إلى شخص آخر، بسمات وسلوكيات تتناقض تمامًا مع حقيقتها. شخصية تتسم بالانصياع الأعمى والانقياد اللاإرادي، تتبع الأيديولوجيات المختلفة دون وعي.
مع كل يوم يمر، كان الثعبان يترك أثرًا سامًا في حياة ليلى. لم يكن السم ماديًا، بل فكرة تتسلل إلى أعماق عقلها ببطء، تزرع الحيرة والألم. أصبحت أحلامها ظلالا باهتة، وذاتها تتلاشى مع كل لحظة غياب. كان السم يشبه كلمات لم تُقال وأفعال لم تُفسر، يحيطها بشعور غامض من الخوف والضياع. لم يكن مجرد ألم عابر أو لحظة ضعف، بل كان شعورًا دائمًا يثقل قلبها ،ويغمر حياتها بالشك والخوف. كلما حاولت أن تتجاهل تأثيره، كان يظهر في أبسط تفاصيل يومها: في صمت غرفتها، وفي انعكاس وجهها على المرآة، في الفراغ الذي باأ يبتلعها ببطء.
بدأت ليلى تشعر بأنها تغرق أكثر في الظلام الذي تركه السم في حياتها. لم تعد تبتسم كما كانت من قبل، ولم تعد تجد في الثعبان ذلك الأمان الذي كان يمنحها إياه في البداية. لكن وسط هذا الانهيار، شعرت بشيء في أعماقها يصرخ، يطالبها بالاستيقاظ. أدركت ليلى أن استعادة حياتها تبدأ من داخلها. كانت تعرف أن الأمر لن يكون سهلاً، لكنها شعرت بأن الوقت قد حان لتحرير نفسها من قيود الثعبان وسمه المتغلغل في اعماقها .
حين قررت مواجهة الأمر، لم يكن قتل الثعبان مجرد فعلٍ رمزي، بل كان كسرًا لسلطةٍ خفية زرعها داخلها. ومع ذلك، لم يكن تحررها سهلاً، لأن الثعبان ظل يهمس لها:
“ماذا ستفعلين بدوني؟ العالم قاسٍ… وحدي كنت أحميك.”
لكنها هذه المرة لم تصغِ له. فقد أدركت أن الحماية التي يمنحها ليست سوى سجن، وأن الحرية الحقيقية لا تأتي دون معركة داخلية، دون مواجهة الخوف من المجهول.
بدأت رحلة ليلى نحو التعافي ببطء، لكنها كانت مليئة بالتحديات. لم يكن من السهل التخلي عن شيء اعتقدت يومًا أنه يمنحها القوة والحب. كان الثعبان ما زال موجودًا في حياتها، يحاول بين الحين والآخر أن يعود ليلتف حولها بنفس الدفء الذي اعتادت عليه. لأنه يرفض خروجها من الحدود التي رسمها لها إذ يرى في خروجها تهديدًا وجوديًا له، لأنه تعود على أن يكون قوة آمرة و سلطة قاهرة تجبر الاخر على الانصياع التام والتقليد الأعمى.لكن ليلى الآن كانت ترى الحقيقة بوضوح: ذلك الدفء لم يكن سوى وسيلة لربطها به، بينما كان السم يتسلل إلى أعماقها تدريجيًا.
في مواجهة أخيرة مع نفسها، وقفت ليلى أمام المرآة، نظرت بعمق إلى عينيها لكنها بالكاد تعرف تلك الفتاة التي تحدق بها . كانت تلك النظرة تحمل اثأر الألم الذي سببه لها الثعبان، لكنها أيضا رأت فيها شعلة صغيرة من القوة مازالت مشتعلة .تذكرت كلمات قرأتها ذات يوم: “الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا، إنّه حرّ من حيث كونُه لا يوجد شيء يقيّده تماماً.يجب أن يناضل بشكل دائم من أجل الحفاظ على مكانته كإنسان مستقّل وحر”. شعرت بقلبها يخفق بسرعة، الحرية ليست مجرد هروب من الثعبان،بل مواجهة نفسها ،قراراتها ، والعالم دون سلاسل تكبلها.
تخيلت نفسها وهي تقتل الثعبان داخليًا، تمزق القيود التي وضعها حولها، وتطهر روحها من السم الذي خلفه. شعرت بأنفاسها تعود منتظمة، وبقلبها ينبض بحرية لأول مرة منذ زمن طويل.
بعد أن أخرجت السم من حياتها، شعرت ليلى كأنها ولدت من جديد. للمرة الأولى منذ وقت طويل، نظرت إلى نفسها في المرآة، فرأت القوة في عينيها، تلك القوة التي كانت مفقودة بسبب الثعبان.
بدأت تنظر إلى المستقبل بعينين ممتلئتين بالأمل. شعرت وكأن الأبواب التي كانت مغلقة أمامها أصبحت الآن مفتوحة، تنتظر منها أن تعبرها.عادت ليلى لتلاحق أحلامها القديمة، تلك التي كانت قد دفنتها عندما سيطر الثعبان على حياتها.
بعد أيام من التخلص من الثعبان، فتحت ليلى نافذتها لأول مرة منذ شهور، وسمحت للهواء النقي بأن يملأ غرفتها. نظرت إلى المرآة، ورأت في انعكاسها فتاةً عرفتُها يومًا… فتاة كانت تحب الحياة. ابتسمت لأول مرة منذ زمن، ثم التقطت هاتفها، وكتبت رسالة قصيرة إلى صديقتها:
“هل ما زلتِ تنتظرينني لنذهب إلى المقهى؟ لدي الكثير لأخبركِ به.”
ضغطت “إرسال”، ثم خرجت لتواجه العالم من جديد، دون قيود.
رسالة ليلى:
لقد كنت أعيش في وهمٍ ظننته أمانًا، وكان الثعبان يحتل كل شيء في حياتي. شعرت أن وجوده هو الذي يمنحني القوة، لكن الحقيقة أنه كان يضعفني شيئًا فشيئًا، يملأ حياتي بالسم، ويبعدني عن ذاتي. لكنني في النهاية انتصرت.
“قد يكون الثعبان شخصًا ، فكرة أو خوفًا يعيش داخلك.لا تسمح له أن يحتل حياتك أو يزرع السم فيها. لان الحرية تبدأ عندما نكسر القيود التي تفرض علينا بلا وعي ،وعندما نمتلك الشجاعة لنكون انفسنا خارج اطار القطيع. قد تكون العملية مؤلمة في البداية، لأن القطيع لا يتقبل ولا يتصالح مع من يسعى إلى أن يكون نفسه، إذ يُنظر إلى الفرد المستقل فكريًا باعتباره عدوًا ومهددًا لوحدته، ومن ثم يُتهم بالخيانة وعدم الولاء.
لكن الأمر يستحق المحاولة، فعندما نخرج من الإطار الذي فُرض علينا، سنندهش من العالم الحقيقي، وسنندم على كل لحظة عشناها تحت وطأة التقاليد والأعراف المتحجرة. لان التقوقع داخل الأطر التي وضعها القطيع ، يمنع الإنسان من الإبداع والتطور.

في قصة ليلى، الثعبان لا يختفي بمجرد أن نتحرر منه، فهو يبقى جزءًا من الهوية حتى بعد التحرر، لكن يبقى لدينا الخيار: هل نعيش حياتنا وفق إرادتنا الحرة، أم نظل مقيدين بما يفرض علينا ؟
ادريسي خديجة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى