حين يبكي السرد دما…قراءة في تمزق الذات وانهيار المعني …أ.فضل صالح

بين السرد والاعتراف، بين الألم والرؤيا، يقف القاص *عبد الله الوبر* في نصه *المعجلة* المنغمس في مجموعته القصصية *ميلاد بلا شهادة* شاهداً لا راوياً فحسب، شاهداً على زمنٍ تنكر لمبادئه، وسلطةٍ تغطّي الدم بالتصريحات، والخراب بالعزاء. في نصه “المعجلة”، يُسجّل الوبر لحظة من أكثر اللحظات توتراً في التاريخ الذاتي والجمعي، مستنداً إلى أسلوبٍ سردي تتشابك فيه نبرة الشهادة مع تمرد الخطاب، وتتعالق فيه لغة الاحتجاج بلغة الوجدان.
يُصنّف هذا النص في جنس السرد السياسي الوجداني، الذي تتقاطع فيه بنية القصة القصيرة مع بوح المقال الأدبي، وتنبجس منه نفحات من الأدب الاعترافي، إذ تتجلى ذات الكاتب في “الأنا” المتكلمة، لا بوصفها شخصية فنية متخيلة، بل ذاتًا متورطة في الواقعة، متفاعلة معها، متأملة أبعادها الأخلاقية والإنسانية.
تتسم اللغة في النص بكثافتها الوجدانية، وإيقاعها الداخلي، حيث تكرار بعض المفردات مثل “أواه”، و”وداعاً”، واستعمال الأسئلة الإنكارية، والانزياحات البلاغية، كل ذلك يمنح النص طاقة شعرية تنبع من عمق التجربة لا من تزويق اللفظ.
إن النص، وإن بدا في ظاهره موقفًا من حدث سياسي (قصف الأبرياء في منطقة المعجلة) إلا أنه في العمق سرد لتصدّع الضمير، وانكسار الأمل، وتحوّل السلطة من حاميةٍ إلى قاتلة. من هنا تتعدد مداخل القراءة النقدية، ونجد أن المقاربة التكاملية التي تمزج بين المنهج السيميائي، والتحليل النفسي، والمنهج الواقعي، وجماليات التلقي، هي الأقدر على احتضان أبعاد النص.
فالمنهج السيميائي يُظهر الرموز الكبرى في النص: “المعجلة” كأيقونة للمأساة “الطائرة” كرمز للقوة العمياء “الدم” كعلامة على البراءة المغدورة “العاصمة” كرمز للخذلان والتزييف و”الخبز اليابس” كدلالة على الزهد مقابل الكرامة. وتلك الرموز ليست ساكنة، بل تتفاعل وتتحول دلاليًا ضمن نسيج النص، حاملة توتره الأخلاقي ومجازه الرمزي.
أما التحليل النفسي، فيكشف عن ساردٍ مشطور بين وظيفته الرسمية وضميره الإنساني، بين ما يُطلب منه أن يقوله وما يعجز عن التفوّه به. يظهر النص كمسرح لصراع داخلي مرير، إذ تتقاطع مشاعر الغضب، والعار، والرغبة في التكفير، وصولاً إلى إعلان التوبة والخروج من دائرة الخضوع.
ويمكّننا المنهج الواقعي من رؤية النص بوصفه وثيقة احتجاج ضد منظومة سياسية حولت الوطن إلى سلعة، والمواطنة إلى صفقة. فالنص ليس منفصلاً عن السياق اليمني الحديث، بل متجذر فيه، يعكس انهيار المعايير، وتشيؤ الإنسان، وهيمنة الفساد.
وتمنحنا جماليات التلقي منظورًا آخر، إذ لا يقف القارئ عند حدود التلقي السلبي، بل يُستفز من خلال الأسئلة المباشرة، والتضمينات الخطابية، ليشارك في فعل الحكم الأخلاقي. فالقارئ يتحول إلى شاهد بديل، ومنفعل، ومسؤول عن قراءة الحدث لا بوصفه مجرد نص، بل بوصفه مأساة إنسانية معاصرة.
بهذا، يتحول نص “المعجلة” إلى صرخة وجدانية، وسجل اعتراف سياسي، ووثيقة سردية تتقاطع فيها الأدبية بالتوثيق، والحس الجمالي بالحس الأخلاقي. وهو نص يليق أن يُدرَس بوصفه مثالًا حيًا على أدب المقاومة الداخلية، لا ضد العدو الخارجي فحسب، بل ضد خيانة الداخل وتواطئه، حيث الكلمات لم تعد تصف، بل تشهد وتدين وتُحاكم.
إن عبد الله الوبر لا يكتب نصًا فقط، بل يكتب جرحًا، ذاكرة، وموقفًا. وتلك أعظم وظائف الأدب: أن يكون ضميرًا حين يصمت الجميع.