أسامة الشعيبي يكتب: على ضفّتي الوجع..

على خارطةٍ مخضّبةٍ بالدم، مرسومة على جسد التاريخ ، تقف الهند وباكستان وجهًا لوجه، لا على شفا المصافحة، بل على ضفّتي وجع قديم يتجدّد كل صباح. فمنذ أن ارتجف جسد شبه القارّة الهندية تحت مطرقة الاستعمار البريطاني، وشُقّت البلاد بسكّين التقسيم في آب 1947، خرجت الجغرافيا من رحمها تصرخ لا فرحًا بميلاد دولتين، بل ألَمًا لانشطار روح واحدة.
لم يكن ما حدث مجرّد انتقال سياسي في مسرح الأمم، بل كان زلزالًا وجدانيًا، خرق النسيج العائلي والاجتماعي والروحي لشعبٍ كان واحدًا ذات زمان. ولأول مرّة، تحوّلت الطرقات التي كانت تعجّ بالتجّار والمحبّين والمتصوّفة، إلى طرق للهرب والذبح. لم تكن القطارات تسير في اتجاه الأحلام، بل في اتجاه المذابح. قطارات بلا محطّات، مكدّسة بالجثث والأيتام والنسوة المفجوعات، كأنّها رسائل دموية عابرة بين ضفتي القلب الممزّق.
الهند وباكستان، لم تخلقهما الأرض فحسب، بل ولّدتهما النكبة. هما، منذ البدء، لا يختلفان في التكوين، بل في الجراح. إنّهما صورتان لمرآة واحدة تحطّمت، فصار كلّ طرف يحمل شظايا الآخر، وكلّ منهما ينزف ما لا يُقال. ففي اللغة، في المأكل، في الزيّ، في الصوت الرقيق للأغنيات الكلاسيكية، في الشاي بالحليب والبهارات، في أفلام بوليوود وقصائد فيض أحمد فيض، ترفرف روح واحدة تتحدّى الأسلاك الشائكة.
لكنّ السياسة لا تعترف بعذوبة الروح، ولا برقص النخيل المشترك على ضفاف نهر السند. إنها تصغي لبنادق الجنرالات أكثر مما تصغي لنواح الأمهات. وهكذا، منذ عقود، تلبّدت سماء الجارتين بغيوم العداء، وتحوّلت الحدود إلى مقبرة للأمل، تارة على هيئة صراع مسلّح في كارجيل، وتارة كشتائم دبلوماسية، وتارة كصمتٍ لا يُحتمل.
وكشمير، يا لهذه الأرض المعلّقة بين السماء والدم! كأنها صليب يرفعه التاريخ كلّما أراد أن يذكّر الطرفين بأنهما لا يزالان يعيشان في غرفة واحدة من بيتٍ متهدّم. هناك، حيث تلتقي الأشجار بالبنادق، والثلوج بالدم، تُغتال الطفولة كلّ يوم، ويُغتَصب الحلم على أعتاب المدارس المغلقة. وكأنّ كلّ طفل يولد هناك، يُولد برصاصة مقدّرة في جبينه، لا باسم الدين، بل باسم الخيبة.
لكن، هل الكراهية قدر؟ وهل التاريخ سيف لا يرتدّ؟ أليس في الإمكان أن تعود الذاكرة إلى ما قبل الشرخ، إلى ذلك الزمن الذي كان الناس فيه لا يسألون عن الهوية، بل عن الضيف، عن الموسم، عن الحب؟
إنّ ما يربط الهند وباكستان اليوم، ليس فقط الماضي، بل الحنين. الحنين إلى ما قبل الخوف، إلى دفء السجادة التي كانت تُفرَش للصلاة والتلاقي، لا للتفاوض. الحنين إلى أصوات الباعة المتجوّلين في لاهور ودلهي، إلى النوافذ التي كانت تطلّ على بعضها البعض بلا حواجز، إلى القصائد التي لا تحتاج إلى ترجمة، لأنها تُفهَم من نبرة القلب.
الهند وباكستان لا تحتاجان إلى اتفاقيات نووية لتضمّدا جراحهما، بل إلى شجاعة عاطفية. إلى شاعر يجلس في البرلمان، إلى أمّ تحمل صور ابنها المفقود وتقول: “كفى”. إلى قارئٍ بسيطٍ يتبادل كتابًا مع جاره على الضفة الأخرى.
فالسلام، لا يُصنع في دهاليز السياسة، بل في الأغنية. في حضن الجدّة حين تروي حكاية ما قبل التقسيم. في ضحكة امرأة باكستانية على نكتة هندية.
سيظلّ الوجع حاضرًا، نعم، لكنه لن يكون خالدًا إن اختار الطرفان أن يُطفئا نار العداء لا بإغراقها بالدم، بل بقطرة محبّة. فهما وإن تفرّقت الجغرافيا لا تزالان طفلين ضالّين يبحثان عن طريق العودة إلى البيت الأول: بيت الإنسانية.