كتاب وشعراء

حين تُتَّهَمُ الحاوية: جدل التلقي وتحوّلات الدلالة في قصة “تُهمة” لصوفيا الهدار.. كتب/فضل صالح

*حين تُتَّهَمُ الحاوية: جدل التلقي وتحوّلات الدلالة في قصة “تُهمة” لصوفيا الهدار*
*كتب/فضل صالح*

في زاويةٍ من المدينة الصاخبة، تنبعث من الجماد حكاية، وتصير الحاوية شاهدًا حيًّا على ما لا يُرى، وناطقًا بما أُريد له أن يُطمس. هكذا تشعل الكاتبة صوفيا الهدار شعلة المفاجأة في قصتها القصيرة *”تُهمة”* فتعبر بالسرد من وظيفته الجمالية إلى مساءلةٍ أخلاقيةٍ تُخاطب ضمير القارئ قبل ذائقته.
النص ليس حكايةً تُروى، بل صدمةٌ تُبنى بتؤدةٍ حتى تصل منتهاها في جملةٍ واحدةٍ، تخلخل يقين القارئ وتُعيد تركيب فهمه بأثر رجعي: “حاوية قمامة تقتل طفلة”.

ما يُظَنّ بداية أنه صوت بشريّ متعب، يتحول في النهاية إلى صوت جمادٍ مُهمّش، صامتٍ عن حقه في الصمت، ناطقٍ بالنيابة عن الذين لا صوت لهم. في هذا الانزياح الجذري عن أفق التوقع، تتجلى قوة جمالية التلقي التي تُراهن عليها الكاتبة؛ إذ لا يُبنى المعنى في لحظة التلقي الأولى، بل يُولد من رحم المفاجأة، ومن صدمة الحقيقة المؤجلة.

القارئ ليس هنا مستهلكًا لمعنى جاهز، بل صانعًا لدلالات تتراكم من شظايا العلامات: *الطفلة الحافية، القطط الجائعة، الشارع الرمادي،* *والحاوية* التي تئن. كل شيء يُشير إلى شيء آخر؛ والكلُّ يبوح دون أن يتكلم. هنا تتداخل لعبة السيمياء مع جمالية التلقي: فالدالّ البسيط يتحول إلى دالّ مركّب، والجماد يكتسب كينونةً معنوية تفوق أحيانًا حضور الإنسان.

الرموز اليومية تتحوّل إلى إشارات وجودية:
*الحاوية* لم تعد وعاءً للنفايات، بل صارت مرآةً تعكس قبح العالم ونكران القيم.
*الطفلة* ليست شخصية عابرة، بل جرحًا صغيرًا في جسد المدينة الممتد، تاهت خطاها في درب الحياة، فاحتضنها الموت دون يدٍ تمتد لإنقاذها.
*القطط والكلاب* هم أبناء الشوارع، يقاسمون الطفلة خبزها اليابس، ويقاسمون المدينة فوضاها.
*والشارع* ذلك الفضاء الذي يُفترض أن يكون عبورًا، صار سجنًا للمعنى، ومقبرةً للبريء.

ثم تأتي الخاتمة كطلق ناري: الإعلام الرسمي يُلقي باللائمة على الجماد. الحاوية تُدان، وتُجرّد من وجدانها، وتُحوّل إلى قاتل. أما القاتل الحقيقي – *التهميش، الفقر، الصمت المؤسسي* – فينجو من الملامة، بل ويصوغ الرواية كما يشاء.

هنا يرتفع النص من قصةٍ إلى نص احتجاج، يُحمّل القارئ عبء التأويل، ومسؤولية إعادة ترتيب المشهد السردي والأخلاقي. الكاتبة لا تُسلّم المعنى، بل تُدير لعبة التأويل ببراعة، فتدع القارئ يتلمّس المعنى بين الفراغات، ويتعثر في ما لم يُكتب، أكثر مما كُتب.

في قصة *”تُهمة”* يُؤنسن الجماد، ويُجرَّد الإنسان من دوره، في مفارقة تُوجّه سؤالًا وجوديًا فادحًا:
*من الأكثر وعيًا في مدننا الحديثة؟*
*هل الجمادات التي تشهد وتتحسر، أم المؤسسات التي ترى ولا تبصر؟*
هكذا تُولد القصة في لحظة الصدمة، وتمتد كصرخةٍ لا تُقال، وتبقى مفتوحةً على التأويل، لا لتُقرأ وحسب، بل لتُعاد قراءتها عند كل شعورٍ بالعجز. هي قصة تقول ما لا يُقال، وتُشير إلى حيث يُصادَر الصوت.
إنها ليست مجرد *”تُهمة”* بل إدانة ناطقة، ونصٌّ يعيد للقارئ مسؤوليته التأويلية، ويحرّضه على أن يكون شاهدًا، لا مجرد قارئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى