حمزه الحسن يكتب :من بائع الأوهام إلى الإرهابي

ـــــــــ «الرعاع اعتنقوا أفكارهم بدون براهين، فكيف يمكنك أن تقنعهم بزيفها من خلال البراهين.؟ لا يمكن مناقشة الهراء بالمنطق» فريدريك نيتشه.
كيف انتهت مسيرة اكثر من قرن من العمل السياسي ولا نقول النضال السياسي وهناك فارق بين العمل الحقيقي وبين الشعارات في ان تسيطر جماعات وحثالات مسلحة على سوريا سلطة ومجتمع وتتأهب للانقضاض على دول أخرى؟
نحن نحب في التحليل السياسي المضي في اتجاه واحد، في سبب واحد لقضايا مركبة معقدة تتداخل فيها الاسباب، وفي حالة مثل هذه نحمل قوى خارجية مسؤولية الارهاب المسلح في العالم العربي وهو صحيح لكن ما هي التصدعات والثغرات التي نفذ منها هؤلاء؟ لنبصق الحصاة ونتكلم لأننا عادة نرطن ولا نتكلم، نلوك الكلمات من الفك الأيسر الى الأيمن وبالعكس كلقمة البعير ونجتر ونكرر دون أن نفكر في حلقة دائرية مغلقة.
اشتراكيون، يساريون، قوميون، متبريلون، اسلامويون الخ مثقف واحد باقنعة مختلفة. جميعا يؤمنون بقدسية وحرفية النص وزمن التاسيس والمؤسس وحيازة السلطة كعقار ومُلكية وغنيمة واعتبار المختلف عدواً أو منحرفاً لانهم الكمال المطلق في مواجهة النقص المطلق،
وكل تراثهم حيل ومؤامرات ودسائس والتباهي بالفلقة والسجون والهروب وعدد الشهداء بلا ثورة في حين كان الضباط الاجلاف يقومون بانقلاب تلو الانقلاب ويقودون هؤلاء من البيوت والحانات والمقاهي الى السجون .
منذ صدور هذا الكتاب ” نهاية الداعية:الممكن والممتنع فى أدوار المثقفين ” للبروفسور المغربي عبد الاله بلّقزيز منتصف التسعينات وهو موضع تناول وبحث الاوساط الثقافية والعلمية والبحثية العربية ليس من بينها الاوساط العراقية لاسباب من بينها ان الكتاب صدر في زمن دكتاتورية تغذي في المثقف نزعة الداعية والمبشر والمهرج، ومن بينها الحصار ـ الابادة ، وربما يكون أحد الاسباب ان المثقف العراقي، في السلطة او المعارضة، وتحديدا الداعية لم يعد قادرا على تغيير القناعات وان كان ماهرا في تغيير القناع لان المخلوق الهرم لا يتعلم عادة جديدة كما ان تلك ” القناعات” تحولت الى مبادئ صلبة بل الى خلايا وعصبونات في الدماغ مثل كل الافكار والاوهام المعاشة لزمن طويل ومع تقادم الاجيال تتحول الى جينات ولم يعد قرار التغيير رغبة وارادة لان القناعات والاوهام صارت شبكة اخطبوط واقفاصا اقوى من الفولاذ تحتاج الى معجزة للخروج منها اذا توفرت الارادة.
كالعادة لم يسلم مؤلفه من حملات الردح لأنه طالب بتجديد وعينا ومراجعة تفكيرنا بعد الخيبات والويلات والفشل والهزائم في كل شيء حتى في أن نبقى أحياءً كما صرنا اليوم نهنئ بعضنا بدل التحية التقليدية بعبارة : هل أنت حي؟ هل نجوت اليوم؟
هذا الكتاب كشف” وفضح لكمية الاساطير والاوهام والادعاءات والمهام والمشاريع التي انطوى عليها خطاب المثقف العربي” والرسالة الكونية التي نسبها لنفسه والتي كانت تنتهي دائما اما بحمامات دم او تصفية حسابات بلغة” نقدية” في الظاهر لكنها شرسة وفظة وسوقية وكلبية بعد الحفر خلف الكلمات، بتعبير بلقزيز” وتتداخل فيها مفردات السب والشتم تداخل انياب الكلب حسب وصف ماوتسي تونغ لمصالح الامبريالية”.
المثقف الداعية صاحب الشوارب الثورية التي لم تعد تصلح الا لمسابقات القطط وصاحب الالبوم القديم عن ايام السجن والمزبن، ليس فقط ندم على ايام السجن والتتن والنضال المزعوم والاشتراكية بل صار يحلم اليوم ان يكون خادما لدى القوى التي كان يصفها بالرجعية ولو في صحيفة او قناة فضائية او اسطبل خيول لشيخ خليجي،
اما العداء القديم للامبريالية فلم يعد قائما فحسب بل صار جزءا من طلائع جيوشها في غزو الشعوب ووجد وظيفة جديدة بعد ان تخلى عنه حزبه الثوري لفشل المشروع ولعدم حاجته الى مسوغ برنامجه لفشل البرنامج نفسه، هذه المهمة الجديدة هي تسويغ مشروع الاحتلال بالمفردات القديمة نفسها والتلاعب بالالفاظ والعقول بل الحماسة نفسها وبلغة الخصومة نفسها :
الاعداء دائما في نظره اما خونة أو مرضى نفسيا يجب وضعهم في مصحات اجبارية على طريقة النظم “الاشتراكية” في معسكرات ومصحات اجبارية لاعادة التاهيل ـــــــ غولاغ ــــ بالعقاقير والصعقات الكهربائية والتشهير
وهذا الببغاء هو الوطني الوحيد والعاقل الوحيد في مملكة المجانين.
ومن المؤسف ان الجنون ليس خيارا عقليا وإلا كان منقذا من العاهات والقبح والجرائم.
انه بهلوان مهرج بصورة مثقف غير قادر على تصور ان منافسين جددا دخلوا عالم الثقافة والمعرفة ولم يعد وحده حارس التاريخ والحاضر والمستقبل كعلماء الجينات والطب والهندسة والوراثة وعلم النفس واللغات والفلسفة والفيزياء والنجوم والطقس وعلماء شفرات الوراثة ، لكنه ما يزال باللغة السياسية الدوغمائية الشعاراتية يفسر كل ظواهر الكون من انهيار البورصة الى انهيار راقصة في ملهى ومن السياسة في المكسيك الى الشعر الصومالي والياباني والاوروبي بل حتى تفسير مكونات اللبن والبطيخ ولا توجد ظاهرة في الكون إلا ويفسرها دون ان يفسر شيئا ابدا لكنه لا يسمع السعال والانين من شعبه بل من اسرته وجيرانه. كائن منفي في الواقع.
هذا الايمان الابله بقدرة اللغة على التغيير بلا أي أساس واقعي،
هو وهم السحرة والمشعوذين وصانعي الأحجبة والرقى بلا أي فوارق سوى شكل اللغة لكن النتيجة واحدة: وهم تغيير الحياة بالكلمات بلا أي تجارب حقيقية مثمرة تكون خلاصة حياة سوى تجارب موظف في مكتب رمادي أو تجارب حانات أو مقاهي في حين تمكن المثقف الغربي من تجاوز أزمته الخاصة والعامة ـــــــــــ نهاية السرديات الكبرى المفسرة لكل شيء ــــــــــ والارتقاء فوقها وعبور أوهامه وقدم خلاصة تجاربه بوضوح وشجاعة وجرأة وريجيس دوبريه أحد الأمثلة.
كيف استطاع ريجيس دوبريه الفرنسي مؤلف:
” ثورة في الثورة”،
المثقف الذي كتب سيرته بالاقدام والافعال وليس في صالونات، إنجيل الحركات اليسارية والشيوعية المسلحة في العالم في ستينات وسبعينات القرن الماضي، الذي حاول قلب العالم بالسلاح، ورفيق كاسترو ورافق جيفارا الى غابات بوليفيا،
وقبض عليهما عام 1967 وأعدم جيفارا لكن الرئيس الفرنسي شارل ديغول
أنقذه من حكم الاعدام بعد سنوات من السجن،
كيف استطاع الانتقال من الثورة المسلحة والاحباط الى عالم الرواية
والفن والفلسفة حتى وصل الى منصب مستشار الرئيس ميتران،
وحازت روايته” الثلج يشتعل” التي تجسد سيرته النضالية الكبيرة بجائزة” فمينا”، تقديرا لموهبته؟ مع كتب فكرية عدة” نقد العقل السياسي” غير المرغوب فيه” و” المفكر في مواجهة القبائل” وغيرها.
ريجيس دوبريه هو اليوم عضو لجنة جائزة نوبل، لكن ماذا عن” الثلج يشتعل”؟
من خلال قصة حب بين بوريس الثوري وايميلا بنت جبال النمسا، في العمل السري والكفاح في اوروبا وكوبا وغابات وحرب الشوارع، نكتشف تاريخ تلك السنوات من العالم لاجل حب البشر.
المثقف والمناضل السياسي ليس بلا مشاعر وغرائز ورغبات كما تصوره الروايات العربية كخطيب وسجين وحامل شعارات في الشوارع ومن النادر ان تجده يأكل أو يتوجع كما لو أنه تمثال في متحف الشمع بل ان العواطف الحية جزء من انسانيته وتكوينه النفسي والجسدي،
والصورة النمطية عن المثقف والمناضل الصنم والآلة صورة مزيفة لا وجود لها في الآداب العالمية بل لا وجود لها في الواقع.
” تفقد إميلا بوريس في معركة ثم تلتقي في هافانا بكارلوس الثوري،
بعد العيش في الخفاء والخطر، لكن الشرطة البوليفية تغتاله فتخسر إيميلا الرجل الذي احبته والطفل الذي انتظرته لكنها لم تخسر الثقة بالدرب الذي سلكته”
لان القضية اكبر من حلم إمرأة ورجل بل حلم العالم في معركة لن تتوقف.
بلا شك عرف ريجيس شخصية ايملا عن قرب،
لكنه حول قصة حب الى قصة كفاح من اجل عالم نظيف تمثله إيميلا
التي ضحت بكل شيء وخسرت كل شيء إلا حلمها.
ومع أن صورة أمثال إيميلا تختفي اليوم من أخبار العالم،
لتحل محلها صورة مسيئة للمرأة العابثة والسطحية المفتونة بكل ما هو تافه المشغولة بتحسين صورتها في هوس مرضي يكشف عقدة فشل وإحباط وخواء، لكن إيميلا موجودة بكل يقين في كل مكان،
خارج شاشات العالم التي لا تحفل بهذا الصنف الجميل والآسر.
كلما جاء ذكر ريجيس دوبريه، تخطر في البال نهايات ” الثوريين” العرب بعد نهاية الاشتراكية،
وكيف تحولوا الى ندابات مآتم ورواة حكايات بائسة للاطفال عن زمن نضال بائس بلا مشروع ثورة وكيف قادوا شبانا وشابات الى الموت
في السجون بلا مخطط ثورة،
وكيف انتقل فريق منهم الى محطات تلفزة وصاروا أُجراء في قنوات شيخ نفط كان قبل سنوات يطلقون عليه الرجعي،
وكيف إنتقل فريق اخر الى قوات غزو العراق وصاروا جزءاً من نظام الاحتلال
في سابقة لم تحدث في التاريخ ونسوا حكاية الامبريالية والثورة والصراع الطبقي؟
لماذا انتهى” الثوري” الى هذه النهايات الحزينة بل المخزية، دون أن يولد من قصة تاريخ جديد ومن قضية الحرية نفسها وقصة حياة مختلفة؟ انه العمى الفكري والاقفاص والقناعات التي تحاصره وعطب اللغة والمعرفة.
خسارة معركة لا يعني خسارة حلم الحرية، وحلم إيملا وبوريس وكارلوس موجود في أحلام ملايين البشر، قضية العدالة لا تسقط بتعاقب الزمن.
السبب الأول وقد نقول الأخير لهذه المناحات المستمرة وفشل اللغة وفشل المشروع، هو أن الثور ـــ يين العرب ذهبوا الى مشروع ثورة متخيلة بعقلية قساوسة ورجال دين ونقلوا ايمانهم الديني الى الحزب،
وعندما انهارت السرديات الكبرى إنهاروا معها، وفشلوا في تجاوز وعبور الفشل،
وهم بلا كفاءة فكرية بل ببغاوات ملقنة:
كان الهدف هو السلطة وليس تحقيق العدالة والحرية، وخسارة سلطة تعني نهاية المشروع والحلم، ومنها نسمع النحيب والعويل بدل المراجعة وتحليل التجارب،
وهؤلاء “القساوسة” بعد هدم المعبد فقدوا كل أمل ولم يعد عندهم ما يملكون غير البوم صور قديمة عن أيام المزبن والفلقة والهروب والتخفي،
وحكايات لا تنتهي عن زمن لم يسفر إلا عن كوارث ولا حديث عن أخطاء بل عن مؤتمرات وصالونات وخلافات حزبية ويمكن العودة الى مذكرات هؤلاء التي تظهر لنا كم كانوا معزولين ومنفيين عن الناس والواقع وعن أنفسهم.
كان ريجيس دوبريه أكبر من النظرية ، وعندما فشلت الثورة المسلحة،
قرر استئناف الثورة في الفن والأدب والفكر والحياة، بعد مراجعة عميقة لكل تجاربه،
وهو ما فشل به الثوري العربي المخصي عقلياً، لأنه ذهب الى السياسة بذهنية رجل محراب مسطح وحتى عندما حاول بعض هؤلاء” اللجوء الى الأدب” ويطلق عليهم مؤلف نهاية الداعية” اللاجئون الى الأدب” خربوا لغة الأدب كما خربوا من قبل لغة السياسة،
لأن العقل نفسه والقاموس الإقصائي الشرس نفسه حتى لو تغطى بقشرة نقدية باهتة فارغة تمشي بين الغوغاء.
هؤلاء في كل الاحزاب وحتى انتقلت الى ما يسمى المستقلين في الظاهر وصارت معروفة ثنائية المدح والذم: مدح الرفاق والمقربين وكل من يملك سلطة ولو على صحيفة او مبولة او مصرف بصورة مبالغ فيها وصرف النظر عن كل فعل من المقربين في الافكار والعلاقات مهما كان منحطا لان هؤلاء معفيون من المعايير الاخلاقية وقالها علي الوردي،
وذم كل أعزل مختلف أو ميت بلا حول ولا قوة: في الحالتين نفاق فج.
بعدكل تلك المسيرة الطويلة الحافلة بالدم والكوارث والشعارات الكبرى، تأتي جماعات مسلحة، مصنّعة، بل حثالات، لتأخذ السلطة والمجتمع الى مجهول وتغرقه بالدم والرماد واليتم والرعب والمقابر.
لم يمت الداعية الثور ـــ ي ، وإن كان قد إنتهى كدور ولغة ومشروع، لكنه عاد الينا بنسخة وطبعة جديدة منقحة كمحلل استراتيجي في شؤون السياسة والطبخ والأدب واللبن وفي الغرام أيضا،
ولا توجد ظاهرة في الكون لا يفسرها مع انه لا يفسر شيئاً، لأن اداة التفكير ــــ اللغة ـــ معطوبة والعقل نفسه العقل القديم المُلقّن،
ونحن في النهاية أمام نموذج واحد، في اليمين واليسار، والأخطر لقّن أجيالاً على أن السياسة فن الحيلة والشطارة والمحو وكل شيء أو لا شيء: يرفض التسويات والمناطق الرمادية في الظواهر والافكار ويحجز الزمان والمكان والسلطة والشرف والحقيقة كعقلية عصابة ترفض تواجد عصابة أخرى في المكان نفسه سواء في شارع أو حانة أو مقهى وحتى في سجن. الايديولوجيا حسب الفيلسوف بول ريكور “تؤمن بالمحو او الدمج والكل او لا شيء وتحجز الزمان او المكان” وهذه ذهنية العصابات.
لقد إنتهى حتى مع النظام الذي شنع عليه وحاربه في الظاهر، دون أن يعرف أنه والنظام وجهان لعملة واحدة، بل ان بعض عتاة معارضي النظم الدكتاتورية صاروا يترحمون عليها وكتبوا” رسائل انصاف” لها واعتذروا لها عن تلك السنوات.
عندما سقط النظام سقط معه، وخرج الارهابي المسلح ليستولي على كل شيء بعد أن ولد من رحم النظام وتقمص أساليبه في الانتقام والتوحش:
ولد الصل من الأفعى.
ـــــــــ * الصورة: ريجيس دوبريه في الطريق الى المحكمة عام 1967 بعد القبض عليه مع جيفارا في غابات بوليفيا وأعدام جيفارا وحكمت المحكمة على ريجيس بالاعدام لكن انقذه الرئيس شارل ديغول وأطلق سراحه عام 1973. من زنزانته التي قضى فيها سبع سنوات كتب:” مذكرات برجوازي صغير: بين نارين وأربعة جدران”.