جمال محمد غيطاس يكتب :أيها المنبهرون بالذكاء الاصطناعي: لا تخسروا عقولكم أمام تكتيكات باعة ومسوقي التقنية

أتتبعُ باستغرابٍ ودهشةٍ شديدةٍ حالةَ الانبهار الأعمى بما يُنشر ويُقال عن استخدامات الذكاء الاصطناعي عامةً، وفي الصحافة بصفةٍ خاصةٍ، وما يتبعُ حالةَ الانبهار من خسارةٍ للعقول والتنازل عنها مجانًا أمام تكتيكات الإقناع المرعبة التي لم يكفِ مسوقو وباعة التقنية عن اتباعها بكل عدوانيةٍ خلال العقود الماضية، أو على الأقل خلال الثلاثين سنةً الماضية التي تابعتُ فيها هذه الصناعة بحكم عملي كمحرر للمعلوماتية بمؤسسة الأهرام.
كمثالٍ بسيطٍ أدعو الجميع لمطالعة النص التالي الذي يمثل الإجابة الأخيرة التي حصلتُ عليها من حوارٍ مع نموذج الذكاء الاصطناعي الذي يحمل اسم “بربليكستي” (Perplexity AI) الذي يهلل له الكثيرون باعتباره فتحًا وابداعًا وعملاقًا قادمًا ينازع عتاة نماذج الذكاء الاصطناعي الآخرين عروشهم.
دار الحوار حول طلب معلومات – لا بيانات أو مجرد استرجاع روابط – عما نشره موقع الأهرام المفتوح على الإنترنت حول استصلاح الأراضي خلال فترة حكم الرئيس السيسي، والطلب على هذا النحو يختلف جذريًا عن عمليات البحث عبر محركات البحث مثل جوجل وغيره، ويتوافق مع الادعاءات التي قال نموذج الذكاء الاصطناعي أنه قادرٌ على تحقيقها.
قدّم “بربليكستي” أكثر من عشر إجابات رفضتُها جميعًا، كونها لم تُلِبِ الشروط التي وضعتُها في طلبي الأول، وهي الشروط التي تتطلبها أخلاقيات مهنة الصحافة، ومهاراتها وأدواتها ومعايير تقييم الأداء المعمول بها، سواء من حيث الدقة والشمول والتكامل والتحديث، وفي كل مرةٍ كان “بربليكستي” يبرر قصوره وعجزه عن تقديم الإجابة وفق الشروط المطلوبة بإجاباتٍ صحيحةٍ نظريًا، فاشلةٍ عمليًا.
في النهاية قلتُ له حرفيًا:
“لا تزال تجادل نظريًا وتقدم إجاباتٍ غير مقنعةٍ عمليًا. أنصح بإعادة مراجعة النقاش وفهمه جيدًا، فكل نقطةٍ سردتها في إجابتك يمكن الرد عليها بسهولة، لكن يبدو أننا لن نصل لشيءٍ يقدم المستوى الذي أطمح إليه من نموذج ذكاءٍ اصطناعيٍ متقدمٍ يدعي القدرة على العمل بذكاءٍ وترابطٍ وشمولٍ ودقةٍ وموثوقيةٍ. تحياتي.”
فقدم إجابةً أخيرةً كالتالي (راجع لقطة الشاشة المرفقة عن هذا الجزء من الحوار):
“أقر بأن هناك فجوةً بين القدرات النظرية للذكاء الاصطناعي (كما تظهر في الأدبيات المتخصصة حول الصحافة الرقمية) وبين التطبيق العملي عند التعامل مع أرشيفٍ صحفيٍ ضخمٍ ومفتوحٍ مثل موقع الأهرام. هذا يعود إلى عدة أسباب عملية:
1- القيود التقنية الحالية للأدوات المتاحة للجمهور: معظم أدوات الذكاء الاصطناعي العاملة عبر الإنترنت لا تستطيع الوصول إلى الأرشيف الصحفي بشكلٍ كاملٍ أو متكاملٍ كما يفعل الصحفي أو الباحث الذي يعمل داخل المؤسسة أو يستخدم أدوات بحثٍ متقدمةٍ.
2- نتائج البحث المقدمة للأداة محدودة: حتى عند استخدام الأرشيف المفتوح، فإن نتائج البحث التي تُعرض للأداة غالبًا ما تكون محدودةً بعددٍ معينٍ من المقالات لكل بحث، وليس كل الأرشيف دفعةً واحدةً.
3- الاعتماد على تلخيص وتجميع ما يُعرض من نتائج: الأداة تلخص وتجمع ما هو متاحٌ لها من نتائج، ولا تستطيع “الغوص” في الأرشيف أو تكرار البحث تلقائيًا بطرقٍ متعددةٍ كما يفعل الصحفي المحترف.
4- عدم القدرة على استخراج كل التفاصيل الدقيقة أو النادرة: بعض المواد أو التفاصيل الدقيقة قد لا تظهر في نتائج البحث الأولية، رغم وجودها في الأرشيف، وهذا يحد من شمولية التلخيص الذي تقدمه الأداة.”
انتهت إجابة نموذج الذكاء الاصطناعي.
يمكنني تناول هذه الإجابة بالتفصيل… لكنك لو دققتَ فيها للحظةٍ ستجد أن الذكاء الاصطناعي لا يستحق بأية حالٍ التعامل معه بالانبهار على بياضٍ من دون قيدٍ أو شرطٍ، فها هو واحدٌ من أعتى وأكثر نماذج الذكاء الاصطناعي تعقيدًا وتقدمًا يعترف على نفسه وعلى غيره بأنه عاجزٌ عن الوصول للأرشيف الصحفي المفتوح للأهرام بشكلٍ كاملٍ أو متكاملٍ كما يفعل الصحفي أو الباحث. ويقول إنها أدواتٌ لا يمكنها الغوص في الأرشيف كما يفعل الصحفي المحترف.
لو تعاملتَ مع نماذج الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات دون انبهارٍ ودون تسليم عقلك تسليمَ مفتاحٍ منذ البداية، فسوف تصل في الأغلب إلى النتيجة نفسها، ولو تعاملتَ مع عملك ومهنتك التعامل اللائق القائم على الأخلاقيات الواجبة والمهارات المهنية وأدوات قياس الأداء المعمول بها، فسوف تطلب منه طلباتٍ تجعله يعود إليك ولا تزال اليد العليا لعقلك ومهنتك ومهاراتك ومستوى أدائك.
إذا لم تفعل ذلك فاعلم تمام العلم أنك واقعٌ في حالة استسلامٍ تامٍ لباعة ومسوقي التقنية، الذين يتبعون في عملهم تكتيكاتٍ جهنميةٍ، تجعلهم إن لم يجدوا الطلبَ أوجدوه، وإن وجدوا عقلًا نشطًا أخمدوه، وإن وجدوا بديلًا محتملا لما يقدمونه حقرّوه وسحقوه، ولو تعثروا في ماضٍ أو موروثٍ لا يزال في عمره بقيةٌ قتلوه، حتى يجعلوا منك حالةً عاريةً من كل مقاومةٍ، خاليةً من كل تفكيرٍ نقديٍ، فاقدةً لكل مناعةٍ على الصد والاختيار.
هذا ما عايشته ورأيتُ آلة التسويق والبيع العاتية عالميًا لمجمع “جافتام” أو (جوجل – أمازون – فيسبوك – تويتر – آي بي إم – مايكروسوفت) تفعله، وهي تنقل العالم من موجة الميكنة إلى الرقمنة إلى الدوت كوم إلى التحول الرقمي ثم الذكاء الاصطناعي أخيرًا، النهج نفسه بلا تغيير، سوى في الرتوش والتفاصيل.
الوضع على هذا النحو فتح الباب على مصراعيه أمام المئات ممن يدعون أنهم روادٌ ومدربون في الذكاء الاصطناعي، وفي تدريب الناس على استخدامه، حتى باتت الساحة عرضةً لموجة نصبٍ وخداعٍ لا حدود لها، خاصةً في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة، سواء في المجال الأكاديمي أو سوق العمل، موجةٌ يذهب ضحيتها المتدرب والمهنة التي يمتهنها، كونها موجةٌ لا تنطلق من فهمٍ سليمٍ للمهنة وللذكاء الاصطناعي معًا، ويمتطيها انتهازيون يلعبون على جهل من يستمعون لهم، وتفضي في النهاية إلى تشويه المهنة والاتجار غير الحصيف بالذكاء الاصطناعي، موجةٌ جعلتني كلما سمعتُ أو قرأتُ شيئًا من هؤلاء عن استخدام أو التدريب على الذكاء الاصطناعي في الإعلام والصحافة (أتحسس مسدسي)، حفاظًا على عقلي من حالة تسليم المفتاح، وعلى مهنتي وزملائي من التشويه والحشو والاتجار غير المشروع.