كتاب وشعراء

” *صنعاء… حين تلفظ الجرح لغته”* *قراءة تفاعلية تأويلية في نص “رسالة إلى صنعاء” لشكري الحسني* *كتب/ فضل صالح

في نصّه الشعري *”رسالة عاجلة إلى صنعاء”* لا يكتفي الشاعر *شكري الحسني* بأن يبوح، بل يجعل من القصيدة ساحة مواجهة رمزية بين ذات مكلومة ومدينة متحوّلة، مدينة لم تعد مكانًا، بل ذاكرة مستلبة، ومرآة تتشظى بين الغضب والخذلان.

القصيدة تُفتح بجرس نداءٍ لا يريد منادًى، بل يُفجّر سياقًا من الاستنطاق والمساءلة، فيبدأ الشاعر بقولٍ يتهدج بالمرارة:

*”صنعاء يا قلق التوجس من مآلات الزوال”*

هنا لا تخاطب الذاتُ صنعاء بوصفها معشوقة، ولا بوصفها وطنًا رومانسيًا، بل بوصفها كيانًا قلِقًا، متوجسًا، يتلبّسه الخوف، ويغشاه ظل الزوال. مدينةٌ تصمّ آذانها، وتغلق عينيها، فيتحوّل التواصل إلى جدار من الصمم والعمى الرمزي:
*”صممٌ يغلّف مسمعيك، وبعدُ عمياء الخيال”*

هكذا يتقدّم النص عبر سرديةِ تأزّم، تبدأ بالنداء وتنقلب إلى تقريع، فعتاب، ثم اتهامٍ صريح بالخيانة التاريخية:
*”كيف عرضتِ أثواب الزبيري في مزاد؟!”*

في هذا البيت، تخرج القصيدة عن طور التلميح، وتلج فضاء الفضيحة الرمزية: الزبيري، رمز الثورة، صار بضاعة، والثورة قماشًا يُعرض للبيع في سوق الذمم.

الصور التي ينسجها الحسني هنا ليست زينة بلاغية، بل لغة تعبيرٍ شعري يُعاد من خلالها تركيب الواقع بمرآة المجاز. فصورة *”الوجه العبوس القمطرير”* ليست مجرد استعارة قرآنية، بل هي تمثيل ثقافي لـ”السلطة المتجهّمة” التي لا ترى في شعبها سوى الخضوع، والتي تنظر للمواطن نظرة السوط لا الرحمة.

تمضي السردية الشعرية في تفاعل دائم بين الشاعر و”صنعاء” فتتحوّل المدينة إلى خصم متسلّط، لا يصغي، لا يحاور، بل يتلذّذ بإطالة المسافة:
*”بيني وبينك حفرةٌ تزاد بالوقت اتساعا”*

الحفرة هنا استعارة وجودية؛ إنها ليست مجرد فراغ، بل قطيعة تاريخية، نزيف في الوجدان، وهوّة تتسع كلما ازداد الصمت.

ولا يقف الشاعر عند حدود القطيعة العاطفية، بل يستدعي صورًا مروّعة تكشف عن تحوّل المدينة إلى كائن موبوء، ينبثق منه الصديد، والوباء، والخذلان:
*”هذا الصديد ينز من عينيك قد ملأ الدوائر”*
*”هذا وباؤك ظامئٌ يمتصّ أرواح العشائر”*

هنا نصل إلى ذروة المأساة الرمزية: صنعاء لم تعد وطنًا، بل موتًا بطيئًا، مدينة تقتات من وجع شعبها، وتحترف تفريغ الذاكرة من قدسيتها.

في هذا السياق، يندغم الشكل بالمعنى: القافية الحادة، الأوزان المتوترة، والوقفات الإيقاعية كلها تؤدي وظيفة فنية: تحويل النص إلى معركة جمالية ضد العبث.

وفي ختام القراءة، يتّضح أن الشاعر لا يكتب عن مدينة، بل يكتب عن زمن مكسور، عن مشروع وطن يتهاوى، وعن ذاتٍ تحاول أن تنقذ الوطن بالقصيدة حين فشلت السياسة.

“رسالة عاجلة إلى صنعاء” ليست خطابًا شعريًا فحسب، بل صرخة سردية مشفّرة بالمجاز، تتجوهر فيها البلاغة وتتحوّل إلى مقاومة ناعمة، عسى أن تُسمع حين يصمت الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى