رؤي ومقالات

أشرف الصباغ يكتب :عادل إمام عصر من الفن

شغل عادل إمام عصرا كاملا برؤسائه وزعمائه كلهم، وبتحولاته الاجتماعية من النقيض للنقيض، وبتحولاته الفنية الأكثر تناقضا، وقف على خشبات المسارح، وأمام الكاميرات، واقتحم كل بيت وغرفة وفندق ومقهى وعقل وقلب وإحساس. لا يمكن أن ينكر أحد أن لديه انتقادات فنية محددة على عالم الشخصيات اللي يؤديها الممثل عادل إمام، وبالذات تلك الشخصيات التي يرى البعض أنها ليست شخصيات ابن البلد بقدر ما هي شخصيات “السرسجي” على خلفية تحولات اجتماعية وسياسية وظهور منظومة قيم بديلة قادرة على تغطية العشوائيات والفوضى المقبلة. لقد نجح عادل إمام في أداء دور السرسجي الذي كانت الآلة الفنية السينمائية بكل مكوناتها تصر على أن يكون خفيف الظل و”حلنجي”، ثم نصاب على مؤمن على “بُرَم”، وقادر أيضا على الضرب بكل أنواعه: ضرب المنافسين والأعداء، وضرب المخدرات..
عادل إمام ممثل جيد استطاع أن يستثمر كل الفرص الممكنة للصعود إلى القمة والبقاء عليها لسنوات طويلة. لا شك أن قدراته الفنية التي تناسبت مع المرحلة ساعدته إلى جانب الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تمر بها مصر. وذلك في تجربة فنية وحياتية واجتماعية قريبة من تجربة عبد الحليم حافظ في الغناء، حيث استطاع حليم أن يصعد إلى القمة ويبقى عليها لسنوات طويلة بفضل قدراته الفنية، وبفضل التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد..
عادل إمام أحد أوتار العمل الفني السينمائي التي يعزف عليها المخرج. وكون أن المجتمع المصري والكثير من نخبه لديهم مشاكل في مسألة النجومية وصفات النجم وتكوين النجم، أو مشاكل في صناعة السينما، ومشاكل في الأدوار الثانية والثالثة وبقية الأدوار المساعدة وهناك نظرة معينة لتلك الأدوار وفهم أعرج وعاطب لها ولقيمتها، فهذه ليست مشكلة عادل إمام إطلاقا. وكون أن هناك عدم توازن بين مساحات البطل الرئيسي ومساحات بقية المشاركين في العمل، فهذا ليس ذنب عادل إمام. وكون أن العديد من الأعمال الفنية تضم مشاهد ساخنة أو إيحاءات جنسية أو تحرش، فهذا ليس ذنب عادل إمام. إننا نتعامل مع أعمال فنية سينمائية.
إن مشاهد التحرش واللمس والتلاسن والكلمات والإيحاءات التي قام بها عادل إمام في العديد من أفلامه ليست قائمة بذاتها، ولكنها ضمن موضوع محدد شارك فيه الكاتب والسيناريست والمخرج والممثلات والممثلون الذين اشتركوا في العمل الفني. لم يقم عادل إمام، كعادل إمام، بالتحرش أو بالتحريض على التحرش، وإنما الشخصية التي يؤديها عادل إمام هي التي قامت بالتحرش بناء على السيناريو المكتوب وعلى توجيهات المخرج وبالاشتراك مع الممثلة التي تم التحرش بها ليس بصفتها الأصلية ولكن كإحدى شخصيات العمل الفني. وليس من الضروري أن يكون عادل إمام، أو أي ممثل آخر، مؤمن بالدور الذي يقوم به، أو مؤمن بطبيعة الشخصية التي يقوم بها، وإنما الفيصل هنا هو قدرته على تجسيد تلك الشخصية وفقا للسيناريو ولتعليمات المخرج ولقدرات الممثل. والعكس أيضا، أي ليس من الضروري أن يرفض الممثل شيئا في الحياة وفي الواقع، ويرفض القيام بهذا الدور كممثل اتساقا مع المبادئ والمثل العليا والأخلاق. إننا هنا نحول الفن إلى دين وأخلاق بالمعنى الديني الهش، ونحرم كافة المشاركين في العمل الفني من الخيال والإبداع. وبالتالي، من الصعب انتزاع مشاهد التحرش التي قام بها بطل الفيلم عادل إمام من سياقاتها، ولصقها بالمواطن عادل إمام الذي يعمل ممثلا، ثم اتهام المواطن عادل إمام بالتحرش والطعن في أخلاقه، ورفع الحماية القانونية والاجتماعية والأخلاقية عنه من أجل تعريضه لإجراءات قد تهدد حياته من جانب أفراد أو تنظيمات أو جهات ما..
كون عادل إمام يشارك في تمثيل أفلام ذات طبيعة معينة، ويرفض أن تشارك بناته في مثل تلك الأفلام أو يدلي بتصريحات تتناقض مع طبيعة عمله وطبيعة مشاركاته في أعمال معينة، فهذا ليس إطلاقا سببا في الطعن فيه أخلاقيا أو سياسا أو فنيا، ولدينا في نجيب محفوظ (نوبل 1988) مثال لهذا الأمر. بل ومن الممكن ذكر العديد من الممثلين والممثلات والكتاب والمبدعين الذين ساروا على هذا النسق. وفي الوقت نفسه يمكن أن نذكر شخصيات دينية ومشايخ وفنانين وكتاب ومبدعين آخرين فعلوا العكس تماما. ما يعني أننا إذا حاسبنا الفريق الأول، فيجب أن نسمح أيضا للذئاب المنفردة والقتلة والتنظيمات الإرهابية أن تحاسب الفريق الثاني، وأن نسمح لوسائل الإعلام والمؤسسات الأخرى بأن تبتز الممثلين والممثلات للقيام بأدوار أخرى لا تدخل في صميم عملهم وعملهن! وإذا كانت مشاهد التحرش والإيحاءات الجنسية لا تتوافق مع السياق الدرامي للعمل الفني فهذه ليست مشكلة عادل إمام كبطل للفيلم أو كمواطن، ولكنها عيب أو تقصير في العمل الفني. الغريب أن رأي قطاع واسع من المثقفين في كل من المواطن عادل إمام وبطل الأفلام عادل إمام يتفق مع رأي التنظيمات الإرهابية والمؤسسات الدينية والذئاب المنفردة التي تحرض على قتله كمفسد في الأرض! بل وترى أيضا أن الإفساد في الأرض يجب أن يطال كل الممثلين والممثلات.
لم تكن ذكرى ميلاده في 17 مايو 2020 المرة الأولى التي تتأجج فيها مثل تلك الحملات ضده، وإنما كانت حلقة ضمن سلسلة حلقات تحدث طوال أكثر من عشرين عاما، ما يشير إلى مصالح ما لجهات وأفراد وربما مؤسسات يقفون وراء تلك الحملات الممنهجة، والتي يتم فيها استخدام قطاعات المثقفين، واستثمار التناقضات والخلافات بينهم وتشرذمهم وتصفية الحسابات بينهم، لتتجاوز الأمور عادل إمام وتصل إلى ممثلين وممثلات آخرين، وإلى الفن نفسه كرسالة إنسانية وروحية، لتصل الأمور إلى أبعد من ذلك حيث يتم نصب المحاكم الأخلاقية والسياسية، ويتم هدم كل شيء لإثبات ذنب عادل إمام وإثمه الأخلاقي والسياسي والأمني والمهني، وربما ينسحب ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر على ممثلين آخرين وممثلات أخريات، لننتقل إلى حرمانية الفن وفساده وفساد أخلاق العاملين فيه وبه وإفسادهم في الأرض وهو ما يستحق عقوبات محددة قد يقوم بتنفيذها أولي الأمر أو تنظيمات دينية بعينها أو ذئاب منفردة تتفق تماما في رأيها مع آراء العديد من المثقفين، وبالذات في الجانب الأخلاقي.
إن النفاق الثقافي والاجتماعي والديني و”الوطني” سحب الغالبية العظمى من المجتمع إلى واحدة من أحط الدرجات الإنسانية، وخلط المعايير والقواعد الفنية والنقدية والإنسانية، وهبط بالفن والثقافة إلى واحد من أردأ مستويات التدني في تاريخنا. هناك حالة من الخسة والدناءة في التعامل والنظر إلى الفن والفنان، وإلى الثقافة والمثقف، ولكن ماذا يمكن أن نفعل مع مجتمع لا يستطيع أن ينام دون أن يشبع غرائزه بتكفير نفسه وتكفير الآخرين، أو اتهام نفسه بالتآمر واتهام الآخرين بالخيانة العظمى! من أين جاء كل ذلك، ومن المذنب، وإلى أين نسير بكل تلك الأحمال الرديئة والدنيئة، وبكل ذلك الجهل والغباء وقصر النظر والحماقة والانتهازية والتسول الروحي والمادي؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى