رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : لا مكان للاختباء

يعتقد العراقي أن أحداً في العالم لا يعرف ماذا يدور في العراق غيره هو،
وأن ما يراه من حافلات وبقاليات ومقرات أحزاب وأسعار فواكه
ومواكب وشعارات وحفلات هو كل الواقع السياسي
مع ان الواقع الحقيقي هو المخفي في السراديب والأقبية والمكاتب
وهذا المسكين يرى سطح الواقع المزيف
وحقائق السياسة ليست معروضة في الشوارع بل تحتاج الى اكتشاف
وبحث وجمع روابط خفية.
كل الحقائق اكتشاف واختراع وليست لقية طريق. هذا الانسان الذي تربى على الشعارات والجدران والكتل لا يعرف أنه تحول الى فرجة للعالم،
وهو يؤمن انه لغز خفي في زقاق وشارع وحي،
وان الواقع والحقائق هي ما يحيط به هو وان معاييره هي المعيار الوحيد في العالم وان الحي او الشارع او القرية هي حدود العالم،
ولا يعرف انه صار مادة تشريح في مراكز أبحاث وجامعات ومدارس وربات بيوت،
وان كتاباً في الغرب توقعوا نهب وسرقة العراق قبل الاحتلال وبعده،
ووضعوا كتباً مثل كارلوس فوينتيس الروائي المكسيكي وغيره الكثير،
يوم كانت شرائح واسعة من النخبة مغرمة بمشروع التحرير وطالبت باحتلاله علنا في رسائل الى الرئيس الامريكي وشكرته على الاحتلال ثانية مع ان الاحتلال اخطر من الدكتاتورية وان الارض ليست النظام وهو موقف المعارضة الايرانية في الحرب الاخيرة،
ليس قدرنا ان نختار بين دكتاتورية وحشية واحتلال بربري بل قدرنا الوحيد هو الحرية، بالضبط هي الحرية، وخيار الحشر بين خيارين كمن يطلب منه اختيار خشبة الاعدام.
هذا المواطن لا يعرف أن عشرات الأقمار الصناعية مسلطة عليه،
وأن ملياري نص ورسالة وصورة وملف ومكالمة تتم السيطرة عليها في العراق من مركز تجسسي أمريكي خاص كل شهر وتخضع للتصفية،
ومن لا يصدق عليه قراءة كتاب أدوارد سنودن:
” لا مكان للإختباء”
لضابط المخابرات الامريكي الهارب منذ سنوات في روسيا مع ملفات دامغة وصدر بحقه حكم الاعدام غيابياً وقد عمل في وكالة الأمن القومي الأمريكية NSA المنفصلة عن السي اي ايه ويعمل فيها ثلاثون شخصا فقط يخضعون كل يوم لجهاز فحص الكذب للمراقبة والتلصص واختراق الحواسيب والهواتف وصفحات التواصل وغيرها.
أنت لا تستطيع أن تتأوه في غرفة نومك ولا تتغوط في حمام ولا تتعرى في غرفة مغلقة ومعك حاسوب أو هاتف،
دون أن تكون مرصوداً بالصوت والصورة حتى لو كان الهاتف مغلقاً،
فيتم تفعيله عن بعد، يقول سنودن،
واذا كنت لا تستخدم هواتف حديثة فيتم ارسال طائر الكتروني يغرد لك فوق أقرب شجرة وهو نسخة مصنعة من طائر حقيقي ويرسل بالصوت والصورة كل ما يتعلق بك،
واذا تطلب الأمر إدخال حشرة الكترونية بحجم بعوضة مزودة بأجهزة حساسة للتصوير وإبرة سامة تلدغك وانت غارق في الاحلام الرومانسية ويعثرون عليك ميتاً في الصباح قضاءً وقدراً وليس بقرار مخابراتي واذا كان تلفازك حديثا فأنت تحت المراقبة بعدسة سرية. لا جدران ولا أبواب مغلقة بعد اليوم. حتى الاجتماعات السرية لقادة الدول والاحزاب والجماعات والهيئات القيادية في الغرف المغلقة يمكن سماع ما يدور فيها من خلال التقاط ذبذبات الصوت على زجاج النوافذ.
لم يعد أهل مكة أدرى بشعابها، مكة اليوم ليست واحة منسية في صحراء بل أهلها لا يعرفون أسرارها الخفية الكبيرة،
وعلى العراقي الكف عن الخفة العقلية وشعارها السخيف:
” هاي نعرفها وذيج نعرفها”.
وهو لا يعرف شيئاً وهناك دول بوغت قادتها انهم يحملون جواسيسهم و موتهم في جيوبهم وعلى طاولات مكاتبهم كالهواتف وكانوا تحت المراقبة في الاماكن السرية: حزب الله، قادة ايران وقريبا العراق اذا لم يخضع للشروط الامريكية في نزع سلاح الفصائل.
نحن في عالم رقابي صارم ولسنا في زمن الشعاب والقرطاس والقلم
والخيل والليل والبيداء والسيف يعرفنا.
لسنا في العصور القديمة بل في فضاء كوني مفتوح،
وكنا قبل شهور نراقب مسبار برسيفيرانس وهو يحط فوق كوكب المريخ
بعد رحلة ملايين الأميال في معجزة كبيرة للعقل البشري.
العالم اليوم ليس الشارع الذي تعيش فيه، واذا كنت ترى مواكب جنازات لانفجار ارهابي، مثلاً،
فغيرك في مكان ما في العالم يرى قبلك عبر شاشات كيفية اعداد الارهابي
وطقوس وداعه وركوبه السيارة المفخخة، ولحظة التفجير وكذلك مراسم العزاء للضحايا ومن هم الضحايا.
لا مكان للإختباء وقد تكون انت من يرى جانباً من الصورة
لكن واقع اليوم المركب المعقد بألف صورة وبعضها غاطس في التاريخ
البعيد والقريب وفي العقل السياسي وفي مصالح دول وجيوش
ومخابرات وشركات ومافيات تحت الارض وثقافات وعادات وتقاليد وأساطير،
فكيف رأيت كل ذلك حضرة المحترم؟
رقم هاتف او بريد الكتروني او بطاقة مصرفية يكفي لمعرفة اين تعيش وفي اي مكان ومع من وكل تفاصيلك الخاصة.
اكتشف كبار ضباط الجيش العراقي أن أزرار البدلات الخاصة بالاحتفالات
وتكون أزراراً كبيرة هي أجهزة تعقب، هذا ما قاله لي ضابط عراقي كبير،
كما أن العجلات والدبابات والهامرات زرعت فيها أجهزة تعقب وهذا ما اكتشفته داعش عند احتلال الموصل، حتى الطائرات مبرمجة لمسافات محددة،
ومن النادر أن توجد غابة أو جبل أو شارع رئيسي، أو أماكن نزاع أو تواجد مسلح من غير أجهزة تلصص على شكل
صخور من جنس صخور المنطقة أو أشجار زرع فيها عدسات حساسة،
ولا يمكن لطابور مسلح أن يعبر من مكان الى آخر من دون أجهزة تعقب وتصوير فورية.
إن الحقيقة ليست ما تراه،
وأول ما عليك أن تعلمه في عالم ما بعد أورويل ، نسبة لجورج أورويل،
إن الواقع الظاهري اليوم لم يعد حقيقا، بل الواقع الحقيقي هو المخفي،
وفي مجتمع الفرجة يصبح قول الحقيقة نوعاً من الزور،
ويصبح الزور حقيقةً كما يقول جي ديبور في كتابه المرجعي: مجتمع الفرجة.
وقريباً جداً، وجداً، ستصدمك أحداث عاصفة وانت مطمئن ان كل شيء في مكانه دون ان تسمع هدير العاصفة المقبلة بعد الانذار الامريكي للنظام بحل الحشد الشعبي وتسليم السلاح او خيار القوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى