د.محمد إبراهيم العشماوي يكتب :فتنة العلماء والدعاة .. حكاية كل عصر!
اعتبروا بابن الجوزي!

قال ابن الجَوْزي – رحمه الله – في كتابه الممتع [صيد الخاطر] يحكي كيف كان حاله مستقيما في بدء شبابه، ثم كيف صار حاله بعد أن عُرف واشتهر، وأقبلت عليه الدنيا:
“كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبًا طيِّبًا، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، وَلِي نوعُ أُنْس، وحلاوة مناجاة، فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدتُ تلك الحلاوة، ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة، ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فَعُدِم ما كنت أجد من استنارة وسكينة، وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب، إلى أن عُدم النور كله، فكان حنيني إلى ما ضاع مني؛ يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي!”. انتهى.
قلت: يحكي ابن الجوزي حال كثير من العلماء والدعاة، في بداية أمرهم، من أخذهم أنفسهم بالشدة، والورع، والاجتهاد في العبادة، وحرصهم على الجهر بكلمة الحق، وإيثارهم رضا الله ورسوله، ومجانبة السلاطين، وأرباب الدولة، ورجال المال والأعمال، مخافة أن يفتنوهم عن دينهم، وما كان لهم آنذك من حسن الحال، وبهجة الإقبال، والقبول عند الخاص والعام، وسماع كلامهم، والثناء عليهم، ثم كيف فُتِنوا بعد مخالطة هؤلاء، واستمالة هؤلاء لهم، بسبب حلاوة وعظهم، وحسن حالهم، وإقبالهم على ربهم، فصاروا يترخصون، ويتساهلون، ويسعون في رضا هؤلاء، ويلتمسون لهم التأويلات والمخارج؛ لينالوا من دنياهم، كما نال هؤلاء من دينهم، حتى أظلمت قلوبهم، وذهبت حلاوة كلامهم، وانصرف الناس عنهم، وكانوا مع ذلك يَحِنُّون إلى الحال القديمة، فيستدعي ذلك منهم رقة في الوعظ، وخشوعا في الكلام، فينتفع الناس بهم، ويتوبون إلى ربهم، ويخرجون هم مفلسين فيما بينهم وبين أنفسهم!
ولقد كنت منذ وعيت على نفسي؛ أخشى على نفسي سوء هذه الحال، وما زلت إلى الآن، وهذا الذي يزهدني في صحبة أهل الدنيا، والدخول فيما بينهم، وهو الذي أبقاني في طنطا وفي الأقاليم، وصرفني عن القاهرة والمدن الكبرى، ومما أعانني على ذلك أن أكثر شيوخي كانوا على مثل حالي هذه، وأن الله تعالى فطرني على العزة، وعدم الخضوع لأحد من أجل دنياه!
وأسأل الله لي ولإخواني السلامة والعفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.