رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : السلطة المهجنة

ــــ إن كل انحطاط للسلطة هو دعوة للعنف* حنة آرنت.
إن أخطر ما قامت به الولايات المتحدة الامريكية في العراق بعد أن عجزت عن ترويض حركات الاسلام السياسي هو الدخول لبعض تلك الحركات من باب خلفي ونفذت بنعومة ما عجزت اجهزة النظام السابق الوحشية عن طريق القسوة والاخفاء والاعدام والمطاردة،
والهدف هو تدميرها وإفراغها من كل محتوى أصلي عبر الافساد المنظم،
وتحويلها عبر نفق طويل الى عقارات ومقاولات وكيانات لا تمت بعلاقة
لزمن التأسيس الأولي وزمن المبادئ،
أي تهجين بعض تلك الحركات، والهجنة تعني فقدان الهوية الاصلية
التي تبقى كشعار شعبوي للتكسب السياسي،
وهي تعاني من ما يعرف بالازدواج الوجداني ambivalence :
حب الشيء والنفور منه في وقت واحد،
كراهية المحتل وتقليد حياته المرفهة والتعامل التجاري الاقتصادي
من خلال مصارفه ومافياته وشركاته.
كان المفكر الهندي الكبير البروفيسور في جامعة هارفرد “هومي بابا” أول من أدخل مفهوم الازدواج الوجداني من مفاهيم علم النفس في تفكيك الخطاب الكولونيالي وتغلغله في الثقافة المحلية لوصف:
” علاقات النفور والانجذاب بين طرفي العلاقة”*
المستعمِر والمٌستعمَر وحسب هومي بابا:
” الخطاب الكولونيالي يريد تخليق متلق سهل الانقياد يعيد انتاج
مسلمات الاستعمار ويقلد عاداته” **.
يسوق هومي بابا الطريقة الملتوية في تهجين الخطاب الكولونيالي بالثقافة المحلية بالتذكير بمحاولة تشارلز جرانت جنرال بريطاني عام 1792 عندما حاول غرس الديانة المسيحية في عقول الهنود لكنه خاف من أن يدفعهم ذلك للمطالبة بالحرية،
فوجد الحل في مزج العقائد المسيحية بالممارسات الطبقية الهندية التي تربي على الخضوع***
أي لا هو هندي ولا هو إنكليزي بل طبعة مهجنة محسنة وهي الخلطة الجديدة لنا كما سنرى.
هذا التداخل والمزج سيخلق هجنة أو هوية جديدة ليست هندية وليست مسيحية،
أي فقدان الهوية وهذه الهوية الجديدة ستكون متعالية على الطبقة الأصل، ومفرغة من جذورها ومشوهة،
ومن مصلحتها وجود القوة المسيطرة بل وحتى الدعوة لاحتلال أوسع،
وبهذه الطريقة ربط الطبقة الهندية التجارية ببريطانيا وتشابكت المصالح
كما تشابكت المصالح في العراق بين نخب الاحزاب وحلفاء الخارج كتشابك أنياب الكلب،
وهو السبب الرئيس لخلق طبقة جديدة مهجنة في السكن والبذخ والملابس والحفلات والسيارات والقصور مع تخلف ثقافي فج من حفاة الأمس كجسر للعبور نحو الأسواق الرأسمالية .
التهجين من مفاهيم علم الأحياء تزاوج بين كائنين من سلالات مختلفة لتكوين نسل يجمع بين صفات الأبوين: كتزاوج الفرس مع الحمار وولادة البغل.
لكن” البغل السياسي” من نوع مختلف وخطير وهو نتاج تهجين ثقافي وعقلي أنتج مخلوقات غريبة عن الناس وعن الوطن وعن نفسها: مخلوقات سياسية مهجنة، النصف الأعلى الظاهري من المهجن بشر عقائدي، والنصف الأسفل من الخصر فما تحت نصاب ولص : متمرد من الاعلى ومهزوم من الخصر فما تحت.
ما الذي تبقى من المبادئ والعقائد المؤسسة لبعض حركات الاسلام، مثلاً،
عندما تحول بعض قادتها الى طبقة مالية تجارية مرفهة
في حياة باذخة وهي تأسست على مبادئ الزهد والتقشف والأنين
والحنين لزمن التضحية والبطولة؟
ما زلنا نتذكر جيداً حياة الزهد والتقشف للقادة المؤسسين للاسلام
السياسي الشيعي وهو التيار التمردي في التاريخ، ونستغرب من هذه الكيانات الجديدة المهجنة:
لا هو شيعي ثوري ولا سني وطني ــــــــــــ الكلام عن كيانات وأحزاب وليس عن أفراد ـــــــــــ ولا هو أمريكي علماني ولا إيراني داهية ولا سعودي وهابي ولا تركي قومي متعصب لبلده بل ديك مهجن حاول تعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الطاووس، عالق بين الضريح وبين البطاقة المصرفية:
التهجين الثقافي Reverso Context الاستعماري القسري نوع من نزع الهوية
وخلق أخرى مع تاريخ ملفق كالقول إن العراق كيان مركب طارئ لكي ينسى الفرد من هو وينساه العالم
وهي طريقة ملتوية في زرع بنية التقبل النفسية لمشروع التقسيم.
الأرجح أن هذا التحول الخطر لم يكن تفكيراً أمريكياً فحسب لأنها تمارس العنف الأهوج، بل هو الدهاء الانكليزي العريق الناعم والخفي،
ولا نستغرب هنا أن بريطانيا قبل غزو العراق قد فتحت سجلات العشائر العراقية في سلوك غير مفهوم في ذلك الوقت
لان العشائر كيان تقليدي مصلحته الاستقرار ويرفض التغيرات العاصفة.
في مقال لنا قبل الحرب بإيام وبعنوان:” إنطلاق وحش وقبيلة مركبة” ما يزال منشوراً بتاريخه في بعض المواقع،
كلام على أن النظام ” القادم” سيكون خلطة من سياسيي الخارج
ومن مقاولين جدد ومن عشائر ومن بعض أفراد النظام السابق خاصة الضباط الذين يتمتعون بسمعة حسنة ومن الاسلام السياسي،
وهذه “الخلطة التقليدية” المتنافرة والمتعادية يستحيل التوافق بينها على قرارات مصيرية ـــــ حيث المشغّل في العتمة يدير اللعبة ــــــ وهو هدف تكوينها في تجمع كشكولي، من مصلحتها ” حفظ النظام” التعبير الملون الانيق للنهب المنظم.
العناصر الوطنية التي رفضت التهجين والاحتواء والاندماج،
تمت تصفيتها من خلال منظمات إرهابية مخترقة أو مصنّعة في مسلسل
اغتيالات كصيد الساحرات في أوروبا في القرون الوسطى في الشوارع
وتحميل المسؤولية لمنظمة ارهابية وهو اسلوب يسمى:” التنظيف”
لكي يُحكم البلد من مأجورين ووكلاء ومن لم يهجن او يروض او يندمج تتولى عناصر محلية مشتراة ومأجورة عملية التصفية والتشهير الاخلاقية باستعمال المعارات الشرقية الحساسة التي تمشي على الغوغاء والسذج والعقل الملقن المستقيل.
تم تهجين بعض تلك الحركات بل خلق منظمات مجتمع مدني وهو أخطر من التصفية الجسدية وقطع اذرع النقابات والجماعات ذات ” الرؤوس الحارة” حسب الوصف المخابراتي الامريكي التي تحرك المجتمع لان التصفية
ستدفع الحركات نحو حضن الناس لكن التهجين تلويث وخلق طبقة فراغية مرفهة وسطحية على حساب بؤس الناس أمثال مقدمي ومقدمات برامج كنجوم ومنابر وصحف ممولة في السر والترويج لنمط من الكتاب والتعتيم على اخرين، وهي مصيدة خلقت هوة قاتلة ونفور بينها وبين الناس
وعلى المدى البعيد سوف لن تجد هذه الاحزاب والكيانات بيئة مناسبة لها عدا الحواشي والاتباع وتعيش في حالة دفاعية مؤرقة عن الوجود لأن القصة
بالنسبة لها لم تعد سياسة بل قضية حياة أو موت وعليها أن تقاتل بشكل إنتحاري غريزي أمام أي تحولات غير متوقعة.
هذه الحركات التي كان متوقعاً أن تقود صارت مع الأسف تحكم،
والفارق كبير بين قيادة مجتمع و بين حكمه بالقوة، وهو مأزق مركب لا خروج منه واستمرار للإزدواج الوجداني في النفور من الاحتلال المبطن ومن تقليد ثقافته وحياته المرفهة والخضوع له،
لكن هذه الازدواجية تحمل في داخلها بذور دمارها لانها خلقت طبقة سياسية منتفعة مهجنة متعفنة تتفسخ مع الزمن وتنهار وسيكون عليها ممارسة العنف طوال الوقت لكي تبقى ــــــ كل أنواع العنف حتى القانون كأداة تغطية للنخب الفاسدة وتمييز أمام المحاكم وقمع ناعم ـــــ واذا كانت ستبقى فسيكون ذلك من خلال المال والسلاح والسلطة والكذب، ولو اجتمع كل فلاسفة الشرق والغرب في تحديد هوية هذه السلطة، لما عثروا على مفهوم مناسب لانها مهجنة وبلا هوية أقرب الى الشركة المساهمة.
في الوقت الذي تبدو هوية المسيطر والمهيمن على جماعة او فرد ثابتة ومستقرة بالقوة والاكراه او الاغواء والتلقين، تبدو هوية التابع والخاضع مفككة ومهجنة وغير محددة الملامح لكي تركع وتخضع من الداخل حتى يظهر هذا الخضوع بمظهر كاذب كقرار ذاتي لأن الركوع الفادح ليس وضعية جسدية فحسب بل حالة اذلال:
سلطة مهجنة طريقها شاق في الحفاظ على نمط حياة مرفهة في مواجهة شعب متربص ومتحفز للانقضاض يوماً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى