تحليل نقدي لقصيدة “ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟” للشاعرة الدكتورة السورية عبير خالد يحيى ….. من إعداد الناقد المغربي سعيد محتال

من رماد القذيفة إلى زهرة القصيدة: دراسة في شعرية الصمود والأمل
تحليل نقدي لقصيدة “ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟”
في أزمنةٍ تطغى فيها أصواتُ الحربِ والدمار، يبرزُ الشعرُ كصوتٍ مُقاوِمٍ يرفضُ الصمتَ والانكسار. إنه ليسَ مجردَ ترفٍ فنيٍّ، بل فعلٌ وجوديٌّ يجسّدُ قوةَ اللغةِ على تحويلِ الألمِ إلى قصيدة، والموتِ إلى سؤالٍ عن الحياة. وكما يذكر الشاعر الأردني راشد عيسى، إن الشعر “دفاع فطري عن هوية الإنسان”( ما دور الشعر إزاء الإبادة والتدمير في غزة؟ ليندا نصار، موقع ضفة ثالثة، بتاريخ 20 مارس 2024.)، وهو ما يتجسد في القصيدة التي بين أيدينا، “ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟”، هي خيرُ مثالٍ على ذلك، فهي تُقدّمُ رؤيةً عميقةً لدورِ الشعرِ في الصمودِ والشفاءِ، وتُبرزُ قدرةَ الإنسانِ على الإبداعِ حتى في أحلكِ الظروف.
هذا الانزياحُ السردي يُبرز انتقال القصيدة من دور “النائحة” إلى دور “المنقذة”، حيث تُخرِجُ الحياةَ من بين الركام.
الشعرُ فعلُ مقاومةٍ ووسيلةُ خلاص
يُظهر النص تحولًا دراميًا في بنيته:
– الجزء الأول: يركز على الصدمة والموت (الشظايا، الأشلاء، الأرملة).
– الجزء الثاني: ينتقل إلى الحياة (الزهرة، العنقاء، الطفل الذي يحمل القصيدة)، كما أشار الشاعر اللبناني شوقي بزيع إلى أن الفن “يعمل على تغيير الذائقة الجمالية وتنقية الروح”( المرجع السابق ). لتُصوّرُ القصيدةُ كاملة الشعرَ ككيانٍ حيٍّ يواجهُ القذيفةَ لا بالصراخِ، بل بالإنصاتِ والصمودِ: “حين تُباغتُ القصيدةَ قذيفة، لا تصرخُ، تُنصتُ لشظاياها”. هذا التجسيدُ يُشيرُ إلى أن الشعرَ ليسَ مجردَ كلماتٍ، بل روحٌ تُقاومُ الدمارَ بكلِّ ما أُوتيتْ من قوةٍ. إنها تجمعُ الحروفَ كما تُجمعُ الأشلاءَ، وتُرمّمُ المعنى من تحت الردم، لتُعيدَ ترتيبَ الوجعِ في سطرٍ مستقيم. هذا الفعلُ ليسَ مجردَ كتابةٍ، بل هو فعلُ شفاءٍ وإعادةِ بناءٍ للذاتِ والذاكرةِ الجماعيةِ.
القصيدةُ لا تتخلى عن هويتها ولا تتهربُ من جراحها، بل “تشدُّ قميصَها الأبيض على الجرحِ كما تشدُّ الأرملةُ وشاحَها”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى الالتزامِ بالشهادةِ وتوثيقِ الألمِ. إنها تكتبُ “للذينَ لم يُسعفهم الوقتُ ليكتبوا وصاياهم”، مؤكدةً دورَها في الحفاظِ على الذاكرةِ الجماعيةِ للضحايا، ورفضَ محوِهم من التاريخ.
القميص الأبيض كأرشيف للجراح أصبحت له رمزية مزدوجة، يتحول اللون الأبيض من دلالة النقاء إلى وسيط لتسجيل الألم (كورقة تسجل بقع الدم)، عملية “شد القميص على الجرح” تشبه توثيق التاريخ على جسد النص.
وكأن الكتابة تعوض عن “الوقت المسلوب” من الضحايا، حيث يصبح الشعر وصية بديلة للنصوص التي لم تولد، كي تصبح النص بديلاً عن الوثائق الرسمية المفقودة.
ليتحوّل الشعر كمقبرة وطنية، فالنص لا يوثق الألم بل يعيد تعريف وظيفة الشعر:
– من ناقل للحدث إلى مكان للحدث.
– من تعبير عن الذاكرة إلى جسد للذاكرة.
– من وسيط جمالي إلى وثيقة قانونية.
“الزهرة في فوهة المدفع”: رمزٌ للتضادِّ والأمل.
يُعدُّ التضادُّ الصارخُ بين “الزهرة” و”المدفع” من أبرزِ الصورِ الشعريةِ في القصيدة. الزهرةُ ترمزُ إلى الجمالِ، والسلامِ، والحياةِ، والرقةِ، بينما المدفعُ يُمثّلُ الحربَ، والعنفَ، والموتَ، والدمارَ. هذا التضادُّ المطلقُ لا يُبرزُ الصراعَ بين قوى الحياةِ والموتِ فحسب، بل يُقدّمُ أملًا في قلبِ اليأسِ،المفارقة هو أن الحياة تنتصر بأضعف أدواتها في قلب أقوى أدوات الموت. غرسُ الزهرةِ في فوهةِ المدفعِ هو تحدٍّ مباشرٌ للعنفِ والقوةِ التدميريةِ، وإشارةٌ إلى إمكانيةِ وجودِ الأملِ والجمالِ حتى في أكثرِ الأماكنِ قسوةً ودمارًا.
هذه الصورةُ لا تكتفي بتصويرِ الدمارِ، بل تخترعُ واقعًا موازيًا حيثُ يمكنُ للزهرةِ أن تسكنَ المدفعَ، مُحوّلةً أداةَ الموتِ إلى وعاءٍ للخصوبةِ والإبداعِ. فنحن أمام انزياح، تحويل الزمن الانفجاري إلى زمن إنباتي.
إنها تُذكّرُنا بحركاتِ السلامِ العالميةِ، مثلَ ثقافةِ الهيبيزِ في الستينياتِ الذين كانوا يضعون الأزهارَ في بنادقِ الجنودِ(ويكيبيديا)، وهذا ما يؤكد أن الذاكرة الجماعية للضحايا لا يمكن أن تُمحى في القصيدة، ف”الزهرة في فوهة المدفع” ليست مجرد صورةً شعريةً جميلة، بل رمزٌ مكثَّفٌ يحمل طبقاتٍ من الدلالات( الزهور في الأساطير اليونانية القديمة
( https://sr-08.blogspot.com/2018/03/flowers-in-greek-mythology.html?m=1 )
مؤكدةً على مقاومةِ الجمالِ ومنطقِ الشعرِ الذي يُؤمنُ بقدرةِ الجمالِ على اختراق الصلب. فالزرعُ، كفعلٍ، يُمثّلُ الأملَ والاستمراريةَ، وغرسُ الزهرةِ في المدفع يعني أن الأرض، حتى لو كانت معدنيةً ودمويةً، ما زالت قابلةً لإنباتِ المستقبلِ.
الصور الشعرية وإعادةُ تشكيل الواقع:
القصيدةُ تتغنى بثنائياتٍ ضديةٍ تُحدثُ صدمةً بصريةً، تُعبّرُ عن غرابةِ الحياةِ في زمنِ الحربِ: “كيف تُزهِرُ الفراشاتُ (موازاة للزهرة) بين الدبابات؟ وكيف يكتب الشعر تحت القصف؟”. هذه الصورُ تُسلطُ الضوءَ على قدرة القصيدة على إعادة تشكيلِ الواقع، وتقديم منظورٍ جديدٍ يُظهرُ الجمال والأمل حيث لا يُتوقعُ وجودهما. إنها تنزعُ الطابعَ التدميريَّ عن الأدوات الحربية وتُحوّلها إلى فضاءات للإبداع، مُعلنةً “الحياةُ ستبقى تنتصرُ حتى في فمِ الجحيم”.
فعل “تُزهِرُ”يتعدى معناه النباتي ليشمل إزهار الإبداع في ظل القمع. وتفتح الذاكرة الجمعية بعد الصدمة.
عنقاءُ من الرماد وصرخةُ الأبجديةِ:
القصيدةُ، حين تُباغتها القذيفةُ، “لا تموتُ”، بل “تتخفّى في فمِ الريحِ، تُهرّبُ النشيدَ من بين الأنقاضِ، وتطيرُ عنقاءَ من الرماد”. هذه الاستعارةُ للعنقاء – التي تُحيل إلى الأسطورة اليونانية، لكن الشاعرة تضيف بُعدًا حديثًا (“بجناحين من دخانٍ وغيمة”) لربطها بواقع الحرب السائدة في المنطقة – تُجسّدُ قدرةَ الشعر على التجدد والنهوض من جديد، حتى في أشدِّ الظروف قسوةً. إنها تحطُّ “في حنجرةٍ ما زالت تؤمنُ بالغناءِ، وفي يدٍ ترتجفُ لكنها ما زالت تكتبُ”، مؤكدةً على استمراريةِ الإبداعِ والأملِ في الاستمرارِ.
بعد أن تهدأَ صفاراتُ الإنذارِ وتخفت زحمةُ الرعبِ، تنهضُ القصيدةُ من غفوتها، وتُرمّمُ قوافيها كما تُرمّمُ مدينةٌ، وتكتب من جديدٍ. لكن هذه المرةَ، لا تكتبُ عن الدماء والأرواح التي طارتْ فحسب، بل عن “شجرةٍ بقيتْ واقفةً، عن يدٍ نبتَ عليها اسمُ الفتى، عن قطٍّ نهض من تحت الركامِ، عن طفلٍ نجا، وحمل القصيدة في حقيبةِ المدرسةِ”. هذا التحولُ في موضوع الكتابة يُبرزُ قدرة القصيدة على تجاوزِ الألم والتركيز على بصيصِ الأمل والحياة الجديدة.
إذ يُظهر هذا المقطع تحولاً جذرياً في بؤرة الكتابة الشعرية، يمكن تفصيله عبر المقارنة التالية:
– مرحلة ما قبل الهدوء:
* التركيز على الضحايا “الدماء والأرواح”.
* الحديث عن لغة الدمار “الركام”.
* الكتابة كـ”شهادة” على الموت.
– مرحلة ما بعد الهدوء:
* التركيز على الناجين “شجرة، طفل، قط”.
( القط الناهض من الركام يوحي إلى مفارقة غريبة: الحيوان الأليف كرمز للهشاشة ينهض حيث فشل البشر).
* الإشارة إلى لغة الإنبات “نبتَ عليها اسمُ الفتى”. ( الطفل حامل القصيدة استعارة مكنية: الحقيبة المدرسية كـ”وعاء” لنقل التراث. تحمل دلالة تنبوئية: الأجيال القادمة حاملة لواء الثقافة).
* الكتابة كـ”توثيق” للحياة المستمرة.
هذا الانزياح يُحدث صدمةً تأويلية للقارئ، حيث ينتقل من توقع الرثاء إلى مفاجأة الاستمرارية، كما هو شأن “الشجرة الواقفة” حيث مقاومة الطبيعة للدمار (كما في أسطورة شجرة الزيتون الفلسطينية).( حول جدلية العلاقة بين الإنسان الفلسطيني وشجرة الزيتون، حمدان طه، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022).
إلى جاتب صمود الإنسان كجذور متأصلة (إحالة إلى قصيدة “أنا من هناك” لمحمود درويش).
الانتصارُ الرمزيُّ للحياة:
في اللحظة الأخيرة من القصيدة، تتحول الكتابة من فعل تعبيري إلى كينونة حية، حيث “تضع يدها على نبض الأرض” كطبيبة تشخص دقات الحياة الخفية تحت الركام، وتُعلنُ: “ما زالَ في الحبرِ متّسعٌ للحياةِ”. هذه الجملة تُعدُّ خلاصة القصيدة ورسالتها النهائية. فهي ليست مجرد استعارة، بل تشكل بياناً وجودياً، ليتحول الحبر هنا من وسيط كتابي إلى رحم رمزي تُخلق فيه الحياة من جديد، وإلى أرض خصبة تنبت فيها إمكانيات المستقبل،
لتخلق مساحة مقاومة لا يستطيع الرصاص اختراقها. إنها تُجسّدُ الانتصار الرمزيَّ للحياة على الموت، وتُؤكّدُ على قدرة الإبداع والجمال على تجاوزِ الدمارِ. القصيدةُ هنا ليست مجردَ كلمات، بل هي دعوةٌ إلى استبدال ثقافةِ الحرب بثقافة السلام والمحبة، وتذكيرٌ بأن الروحَ الإنسانيةَ، رغم كلِّ الصعاب، ما زالتْ قادرةً على التجدد والإزهار.
كما أنه كما تود قوله الشاعرة:”ليس المهم أن يمتلئ الحبر بالحياة، بل أن يظل متسعاً لها حتى في أحلك اللحظات – هذه هي المعجزة التي لا يفهمها سوى الشعر.”
سعيد محتال
المغرب
النص:
ماذا تفعل القصيدة حين تباغتها قذيفة؟
حين تُباغتُ القصيدةَ قذيفة،
لا تصرخُ،
تُنصتُ لشظاياها،
وتجمعُ الحروفَ كما تُجمعُ الأشلاء،
تُلملمُ المعنى من تحت الردم،
وتُعيدُ ترتيب الوجعِ في سطرٍ مستقيم.
لا تخلعُ قميصَها الأبيض،
لا تهربُ من رائحته،
تشدُّه على الجرحِ كما تشدُّ الأرملةُ وشاحَها
وتكتُب…
للذينَ لم يُسعفهم الوقتُ ليكتبوا وصاياهم.
تزرعُ زهرةً في فُوَّهةِ مدفع،
وتحفرُ مجازًا
في لحمِ اللغة،
تغسلُ وجهَ الكارثةِ
بندفةِ استعارة،
وتحني رأسَها قليلًا…
لا تخضع،
تنصت،
تسمع صرخة الأبجدية وهي تُولد من الطين.
القصيدة..
حين تُباغتها القذيفة،
لا تموت،
تتخفّى في فمِ الريح،
تُهرّبُ النشيدَ من بين الأنقاض،
وتطيرُ عنقاءَ من الرماد
بجناحين من دخانٍ وغيمة.
تحطُّ في حنجرةٍ
ما زالت تؤمنُ بالغناء،
وفي يدٍ ترتجفُ
لكنها ما زالت تكتب.
وتواصل…
بعد أن تهدأَ صفاراتُ الإنذار،
وتخفتَ زحمةُ الرعب،
تنهضُ القصيدةُ من غفوتها
كبدنٍ خرج تَوًّا من رؤيا.
تمسحُ الغبارَ عن جفونها،
تتفقدُ أوزانَها المبعثرة،
وتُرمّمُ قوافيها كما تُرمَّمُ مدينة.
تكتبُ من جديد،
لا عن دماء لطخت ثوب الطهر،
ولا عن أرواح طارت بجناح ملاك فقط،
بل عن شجرةٍ بقيت واقفة،
عن يدٍ نبت عليها اسم الفتى،
عن قط نهض من تحت الركام،
عن طفلٍ نجا،
وحملَ القصيدةَ في حقيبة المدرسة.
القصيدة،
حين تُباغتُها قذيفة…
لا تموت،
تضع يدها على نبضِ الأرض،
وتقول:
“ما زال في الحبرِ متّسعٌ للحياة.”
الدكتورة عبير خالد يحيى
سوريا