ذاكرةٌ لا تصلحُ للحياة…..بقلم محب خيري الجمال

أُولدُ كمن يسقطُ من فمِ الغيم
لا جناحينِ في ظهري، ولا رغبةَ لي في الهبوط.
كلّ ما أحملهُ،
بذرةُ صراخٍ لم تُسقَ بعد،
وظلُّ شجرةٍ مقطوعةٍ من الجذع،
وأُمي التي تلمّ قلقي من الأرضِ كأنّه زجاجٌ مكسور.
ماتت دون أن تخبرني
لِمَن كانت تُرتّقُ قلبي كلّ مساء،
وأنا أخلعهُ دون أن أدري؟”
كانوا هناك،
ينقّبون في دمي عن وطنٍ صالحٍ للعرض.
يكتبونَ اسمي بخطٍّ نافر،
كأنّه جُرحٌ يُدعى للتعليم.
قالوا لي:
تعال، هذه مقاعدُ الطباشيرِ والانتظار.
دخلتُ،
وكان الصفُّ ضيّقاً كأنّه صدرُ المدينة،
وكان الضوءُ خائفاً
كما لو أنّه يعتذرُ من نافذةٍ نسيت أن
تُغلق عينيها حين رأتني
أوقّع على اسمي كلاجئٍ في بلادي.
في أولِ الدرس،
نطقتُ اسمي كأنّه سؤال،
أجابني الحائطُ بابتسامةٍ من إسمنت.
صديقي
كان يحملُ فردةَ حذاءٍ ناقصة،
ويضحكُ كمن يرى ربّاً صغيراً في بطنِ السحابة،
لم نكن نحتاجُ إلى الحريّة،
بل إلى لُعبةٍ لا تشبهُ الهروب.
كلّ شيءٍ حولي
ينمو بشيءٍ من القيد،
الحروفُ بسلاسلها،
المقاعدُ التي تتّكئ على ألمٍ مزمن،
والنوافذُ التي لم تتعلّم كيفَ تبكي.
الأبجديّةُ كانت تَئنُّ،
اللغةُ تُطوى مثل جواز سفرٍ ملغيّ،
والأناشيدُ تلعقُ وجهي ككلبٍ وديعٍ
يخفي في عنقهِ صوتَ السياط.
من قال إنّنا خرجنا إلى الدنيا؟
نحن فقط
انتقلنا من رحمٍ ضيّقٍ إلى غرفةٍ تُطيلُ الألم.
كبرتُ دون أن أجدَ عصباً صالحاً للهتاف،
وكلّما نادوني باسمٍ جديد،
أردُّ بوجهٍ قديمٍ لا أعرفه.
كانت الحياةُ تُخفي نصّها في هامشِ الجريدة،
والحريةُ
طفلةٌ تعثّرت بثوبِ العيدِ
ومضت تجرّ قدميها
كأنّها تغادرُ قصّةً لم تبدأ.
لم أُخطئ حين نسيتُ أن أكون إنساناً،
أنا فقط
كنتُ أبحث عن معنى أقلّ وطأةً من التنفّس.
لم يكن لي اسمٌ
إلّا حين ناداني الحزنُ لأول مرة.
لم أمتْ كما يُتوقع،
بل خرجتُ من النصِّ
كضوءٍ يعبرُ زجاجَ قاعةٍ مُطفأة،
كأنّي لم أكن سجيناً،
بل خدعةً في مَقطعٍ مسرحيّ
تأخّر عن مشهدهِ الأخير.