مـوت بـلا خـزي …..قصه قصيره بقلم محمد الصباغ

عندما طالعت خبر الموت المنشور عن وفاته ؛ والذي فيه مكان وموعد العزاء ؛ فقد أصابتني الدهشة ؛ فقد كان معي بالأمس الأول فقط ؛ وكان بادي الصحة والثقة في الحياة ، وعندما هممت بدخول سرادق العزاء ؛ الذي استقبلني هو في مقدمته ؛ فقد أصابتني دهشة وصدمة أشد ؛ فقد كان هو نفسه علي قيد الحياة ، وكان يستقبل المعزين بنفسه ؛ وفق ترتيب أعده سابقا ونفذه ببرود ؛ من سأم الحياة ؛ ولما أبديت إندهاشي له في كلمات هامسة وأنا أشد علي يديه معزيا فقد قال جاداً : ” نعم مت ؛ ولكني في هذه اللحظة مخادعاً للحياة كلها عن قصد ؛ ولست مدعيا الموت ” .
كان يرتدي زي أقرب ما يكون لزيه العسكري السابق الذي لم يرتديه منذ طُرد من الخدمة ؛ وكان هذا من ضمن الغرائب التي فاجأنا بها منذ الأمس وكان ينفذها في سيناريو قد شرع في تنفيذه في خطوات ؛ مترتبة علي بعضها ؛ ولا شك وكما وضح ليّ أنه بعد سرادق موته الذي نظمه وهو حي ؛ أنه سوف يقدم علي الإنتحار ؛ كما خمنت أنا من تأمل سلوكه السابق وما بدأ يفعله منذ الأمس .
لم أذهب إلي الجلوس في صفوف المعزين ؛ الذين كانوا في قمة الإندهاش ؛ مما فعل !! وقد استأذنته أن أقف إلي جواره لأتلقي العزاء فيه ؛ فقد كَشّفت كل خطته التي سوف ينفذها ؛ وقد تحديت نفسي وقد تحديته هو ؛ أنني سوف أصرفه عن تنفيذ خطته بقتل نفسه ؛ ليس لسبب ؛ إلا رغبتي في إفشال تخطيطه ؛ وليس حرصا علي حياته ؛ فقد خدعني بالأمس الأول عامداً وأخفي عني تخطيطه ؛ بل أنه ضللني وجعلني أنصرف بعيداً عن هدفه الذي أراد تنفيذه .
رحب بأن أقف إلي جانبه في مقدمة السرادق ، وكذلك فقد استجاب لكل من طلب منه ذلك . وبعد فترة من وقوفي إلي جانبه ؛ مال عليّ وقال جملة واحدة : ” رأيت أن أُشّرف علي موتي بنفسي ؛ ليس عدم ثقة فيمن حولي ؛ ولكني قررت أن أزيل هذا العبء عن غيري ، وأن أفعل الضروري اللازم لموتي دون تحميل أي أحد أي مشقة من تبعات موتي ؛ ومنذ إنفضاض السرادق ؛ فسوف لا يترتب علي أحد أي تبعات أخري لموتي أو لحياتي السابقة فسوف يمضي الأمر كما تدبرت وكما خططت وكما رغبت ” .
كان فعله الأخير ؛ بترتيب سرادق موته ؛ مما يتناسب مع غرابة سلوكه في سنواته الأخيرة ؛ ولكنه كان الأشد غرابة من بين كل أفعاله المثيرة للإستغراب .
وقفت إلي جواره في سرادق إشهاد العالم علي شروعه الأكيد في إنهاء حياته وصنع موته بنفسه ؛ كأفضل ما يقدمه في حياته لنفسه ؛ وأيضا إشهار وتوثيق موته ؛ وكنت أنا في حالة إنبساط ؛ لأني قد كشفت “خطة” إنهائه حياته بإتمام مشهد نهايتها ومشهد وداعه وتعزية وداعه ؛ ولكني في نفس الوقت كان ما فعله ورتب له يعجبني الإبتكار فيه وقد عبرت عن إعجابي بما ابتكر وقلت له دون أن أكشف له أني قد كشفت خطته كاملة :
” هل تسمح ليّ بأن أقلدك في هذه الفكرة المجنونة ؛ والتي تليق بي إن فعلتها مثلك ؛ ولكنك ولا شك صاحب السبق . فقال :
– ” لو كان لديك ما يدعوك لحضور جنازة موتك ؛ لا عليك ؛ لا تتردد ؛ افعل ؛ ولو استغرب المستغربون ؛ فلن يحضر في جنازك المرتب بعد موتك إلا من يرغبون في تبادل حديث تافه بشأن حياتك ؛ ولكن إشرافك علي سرادق عزاءك سيضمن أن يكون المشهد كله لائقاً بك ؛ وكما ترغب أنت ؛ لقد أردت أن أفاجئ الموت بحضوري ؛ وأفاجئ الموتي بأني لم أذهب إليهم بعد ، وأفاجئ الناس بحضوري سرادق موتي الذي سيحدث في يوم ما ؛ حيث لن يكون بمقدوري أن أكون حاضراً أو موجوداً ؛ هل تظن أنها فكرة مبتكرة تماما ؟؟ .. هل لم يسبق حتي أن كتبها قاص في إحدي قصص الفانتازيا ؟؟ ” .
– ربما يكون قد كُتبت بشكل ما ؛ لم أقرأها ؛ من بين ما قرأت ؛ وربما تكون السينما قد تناولتها فعلا ؛ لست أدري حقيقة ؛ وما يضيرك أن يكون سبقك أحدهم ولو بالخيال إليها ؛ المهم أنك أنت من سبقت ومن فعلت ونفذت .
لما أراد أن يتسلل إلي خارج سرادق العزاء ؛ بأن يتجول أولا بين المودعين ؛ فقد أدركت أنه سوف ينسحب خارجا إلي حيث يزهق روحه ، وقد تتبعته وهو يتوجه إلي الجانب الآخر من السرادق ؛ دون أن يشعر به أحد ؛ وقد سارعت إلي نهاية السرادق حيث الفتحة الضيقة التي يدخل منها عمال الضيافة الذين يحملون أقداح القهوة وزجاجات الماء وفناجين الشاي للمودعين ؛ وقفت أمام الفتحة الضيقة في نهاية السرادق منتظراً له ؛ لألقاه بعد أن يتم تسلله خارجا من عزاءه . ووجدني في مقابلته ؛ ثم سألته : إلي أين ؟! .. أتترك معزيك ومودعيك وتهرب منهم ؛ لنتمشي قليلا بعيداً عن الجميع ؛ فأنا أريد أن أحدثك صادقا .
لما فاجأته بكشفي لنوايا تفكيره ؛ فقد قال ليّ : ” إني أستحق الموت فعلا ؛ لأني لم أعرف كيف أخفي نواياي وما أعزم تنفيذه ” .
فقلت له : قد يخيل هذا علي الآخرين ؛ ولكننا واحد ؛ ومن نفس “خامة الروح ” ولهذا فمعرفتي لنواياك سهل ليّ ؛ ولابد أن تترك نفسك الآن بعيداً عن خطتك المكشوفة وتعطي لنفسك فرصة للتفكير ولتدبير خطة خفية حقيقية ؛ لتعلو بها في الحياة عما تعيشه الآن ؛ وليس بأن تدبر لخطة أخري تقتل بها روحك ؟! .
– – لقد أصاب روحي الملل ؛ لقد تمكنت الفكرة ؛ لدرجة عجزي عن تصور غيرها نهاية وخاتمة لحياتي ؛ وليس من قدرة سوف تمنعني من تنفيذها ” .
– لنتفق علي أن تضعها الحل الأخير ؛ إذا ما تعذرت الحلول الأخري ؛ وفي زمن تحدده أنت ؛ أي أني لا أطلب منك ؛ لك ؛ إلا إرجاء التنفيذ لوقت ما .
– – ” يحق ليّ أن أرحل ؛ لأني لم أجد من يستبقيني ؛ ويحق ليّ أن أرحل ؛ لأني لم أجد من يستحق أن أبقي لأجله ولا حتي نفسي ؛ ويحق ليّ أن أبقي أيضا ؛ لأني لم أجد من يدفعني للرحيل ؛ والحق أني حائر ؛ وأنتظر هبة الهواء التي تدفعني للطيران أو للسقوط ” .
– الإكتئاب إنتاج ذاتي ؛ وليس نتاج مؤثرات خارجية ؛ اقتل الخوف من الإستمرار في الحياة أولا ؛ اقتل الخوف بداخلك ؛ فهذا هو الإنتصار الحقيقي علي الشدائد .
– – ” أودع حياتي بعد أن مللتها ؛ وبعد أن أشبعتني من عقم الإستمرار فيها راغباً مختاراً ” .
ثم بعد أن أنهي جملته الأخيرة توقف لبرهة ثم قذفني بجمل مروعة في أثرها الذي بقي بداخلي :
” لا تشكو لأحد عندما يلاعبك القدر ؛ بأن يسلط عليك أفراداً تافهون ؛ يقومون بالعبث معك نيابة عنه ؛ مازلنا في حاجة في الحياة إلي مزيد من الأشخاص اللاقدريون والمحايدون ؛ فالمحايدون دائما هم رمانة الميزان ؛ وهم يضبطون إيقاع الحياة ؛ وإن كانوا غير منحازين لنا ؛ ولابد أن تمارس تمرد حقيقي ضد الله ؛ لتعرف معني الحياة التي فرضها عليك ومعني الحياة التي تضيع منك ؛ وكذلك معني الحياة التي تنتظرك في غيب محجوب ” .
كنا قد اقتربنا من الجسر العملاق الذي يعبر فوق النهر ؛ ودلفنا نخطو عليه حتي إذا ما أصبحنا في منتصف النهر ؛ في أقصي تقوس لجسم الجسر علي سطح الماء وقد كانت تحين منه مابين لحظة وأخري إلتفاتة ؛ نحو سطح الماء ؛ ثم فجأة جري بضع خطوات بعيداً عني واستند بيده اليمني علي حاجز الجسر ؛ ثم دفع بجسمه لأعلي متخطياً الحاجز نحو سطح الماء ؛ تاركاً جسده يسقط نحو الماء .
كان المشهد كله ؛ مبتكراً كما أراد وأنا أتتبع بعيني مذهولا دون أن أستطيع أن أفعل شيئا وأنا في عجز تام ؛ لحظة اصطدام جسده بالماء والصوت المتفجر الذي أحدثه إرتطام جسده بسطح الماء .
كان في ظني عندما استدعيت مشهد رحيله بعد مدة من الحادثة التي كنت شاهداً عليها ؛ كان في ظني أنه مات دون أن يتحقق إذا ما كان قد أدي مهمته في الحياة أم لا ؛ وإذا ما كانت أحلامه قد شاخت داخله قبل موته أم لا ؟! .. وأنه حتي اللحظة الأخيرة لسقوطه في الماء ؛ فإنه كان مؤرقا بأنه سوف يموت ودون أن يتحقق من ما إذا كان قد عاش حياته بشكل لائق بلا خزي أم لا ؟! .
( الجزء الثاني )
قبيل إختفائه بعد أن قفز إلى سطح الماء من فوق الجسر العالي ، بعد أن رتب سرادق عزائه وهو لم يمت بعد ، فإنه قد تأكد إختفائه ؛ ولم يتأكد موته بعد ذلك ، إلى عذه اللحظة التي أروي فيها بعض سيرته الغريبة ، كأمني بحسب البعض مجنون ومتعطش لسفك الدماء البريئة ، ويراه البعض أنه كان أمني غير مسبوق ، كان حازماً وقد ضبط العمل ، الأمني ، دون نقطة دماء واحدة زائدة ، وكما حقق أمن الدولة ، فقد حقق أمن الرئيس وأمز السلطة وأيضاً فقد حقق أمن المجتمع .
لم يتأكد أحداً من موته وعد غرابة سلوكه قبل اختفائه بأنه ربما كان عملية أمنية مقصودة ، رغم أنه كان قد أعلن تقاعده قبل ذلك بسنوات .
كنت حاضراً انتحاره ، كما بدا، كنت حاضراً كشاهد عيان وحيد ، حين كنت إلى جواره حين شرع في تنفيذ انتحاره المزعوم ، الذي شككت فيه منذ حدث أمام عيني ، كما تنبأت عندما شاهدته يقف بنفسه في سرادق العزاء ، يستقبل التعازي في موته ، رغم أنه لم يكن قد مات بعد ، ولكن توقعت أنه سينفذ عملية انتحار ، سواء كان انتحاراً حقيقياً أو انتحاراً زائفاً .
برغم أن شاهد العيان الوحيد ، فلم تؤخذ بأقوالي في التحقيق الرسمي ، الذي أجري بناء على شهادتي ، وبرغم أنه اختفى فعلا من السرادق ، كما رويت ، فلم يعتد أحد ، لسبب أجهله للآن بما رويت .
رغم أني الشاهد الوحيد على سقوطه من فوق الجسر العالي حين كنا نتحدث بمنتهى الجدية ، فيما كان قد فعل بالفعل ، وفيما ينوي أن يفعل ، وكنا نتبارز ولم نكن نتسامر .
كنت أنا نفسي قد تشككت في موته رغم رؤيتي ابتلاع الماء له ، فقد كان شخصاً خطيراً تكمن خطورته ف ي فعل الفعل المفاجئ ، وقد كنت أتوقع أن أراه خارجاً من الماء واقفاً في انتظاري عند مدخل الجسر من ناحية السرادق ، الذي استقبل فيه المعزين الذين آتوا واجب العزاء في مماته المؤجل .
كنت أتوقع أن أراه في شوط جديد في لعبته العبثية ، أو أن تأتيني روحه ، إذا كان قد مات فعلاً ، كما كان قد وعد أنه يخبر بشكل ما ، إذا ما كان قد حظى بإستقبال لائق في الموت ، بعدما قد أسيء إليه قبل رحيله في ” مملكته في الحياة ” كما كان يقول .
كنت منذ لحظة مفاجئتي بوجوده حياً في سرادق العزاء ، وأنا أتشكك في كل ما يحدثه ، وكل ما يأتي من ناحيته ، فقد صار اليقين لديّ أنه متلاعب ، يلعب ألعاباً للإشغال والإلهاء ، إما لما يظنه بأنه يصنع به مجداً شخصياً وصيتاً دائما لنفسه ، وأنه هكذا يديم ذكره في قصص التاريخ . أو أنه قد يكون مكلفاً بها من الجهاز الأمني والمخابراتي الذي كان يعمل في خدمته ، وربما يكون مأموراً بما يفعل من سلطة عليا تدير شئون البلاد .
كان فيما سبق قد أشيع ، بشكل غامض أنه سيكون له دور كبير في حكم البلاد ، كما أشيع كذلك أنه قد طُرد من الخدمة ، ولكن فيما يبدو أن هذا كان غطاءً لشيء ما يجري تحضيره ، فحتى في ظل صراع الأجهزة داخل النظام ، لم يكن يطرد أحد من جهاز سري كان يعمل به وقد خبر أساليب الجهاز وتشرب خبرته المتوارثة في لفات كهنوتية ؛ تلف كل من يعمل بهذا الجهاز السري الخطير ؛ بل كان في مثل هذه الحالات ، يتم تسريح المرغوب في عدم استمراره في الخدمة على نحو يرضيه ، ولا يجعله في خصومة مع الجهاز ، أو من استمروا في العمل بعده في الجهاز .
عندما خاب حدثي وظني في أن أجده ، على الشط ؛ عند نهاية الجسر ، وأن أقف في مواجهته لحظة خروجه من الماء ، لأؤكد له بأن حيله كلها مكسوفة لي ، وأن خيالي وعقلي ، أوسع بكثير من عقله وخياله وقدراته وأنه فيما سبق وخدعني ، فلم يكن ذلك لمهارة منه ، إنما ثقة مني في أنه لم يكن في حاجة للوضاعة في في التصرف وخاصة معي ، وقد قدمت له فيما سبق صداقتي ، برغم إدراكي بأنه أمني مأمور !! .
ولذاك فعندما لم أجده وقد خاب حدثي وظني ، فقد توقعت شراً كثيراً من وراء خططه التي لم أدركها وسوف يفاجئنا بتنفيذها ، لو كان فعلاً مازال حياً ، ويمارس لعبة من ألعابه السرية التي يحدثها إمتاعاً لنفسه ، أو تكسباً ، أو بتكليف رسمي له .
وفعلاً فقد حدث بعد أيام من انتحاره المزعوم في ظني ، وفور اختفائه في الماء أمام عيني ، ثم ذوبانه في الماء بدون جثة ، وكل ذلك وقد جرى أمام عيني ، وكأنه سحرني ، لأرى ما رأيت ويختفي هو لأغراضه وما خطط له منذ ترتيب سرادق عزاء لنفسه وهو على قيد الحياة ، ثم تمثيلية انتحاره أمام عيني ، ويصبح ميتاً بشهادتي أنا ، ولكن بدون اعتماد موته من أي جهة ، وكذلك بدون أثر دال على استمراره على قيد الحياة ، فقد توالت حوادث الإنتحار الغريبة في المدينة وقد طالت شخصيات شهيرة ومعروفة وكذلك شخصيات عادية وأسر بسيطة من أسر عامة الناس . وقد صار الانتحار شائعاً وصارت حوادثه شائعة إلى أن امتدت إلى الدولة كلها .
كانت حوادث وجرائم قتل النفس والحوادث الغامضة التي أعقبت اختفائه ، قد صارت في متوالية تصاعدية كبيرة ، وقد توقع الكل بأن ورائها سر سلطوي ، وأنها لن تنتهي ، حين يراد لها أن تنتهي إلا بعد أن يطوع كل الناس في الدولة ، ولكن هذا الإنتهاء سوف يكون بعد فترة كافية لتنفيذ هذا التخطيط ، وذلك سيكون حين يُقتل القاتل ، أو أن يحدث ويمل القتل فيقوم القاتل نفسه ؛ بقتل نفسه في النهاية المتوقعة ، بوسيلة انتحار ما ، وأيضاً بعد أن يكون قد ارتكب من الجرائم ، بما يكفي لتحقيق الترويع المطلوب والمرغوب من المُخطط الساعي للسيطرة على المجتمع .
كان مخطط القتل والحرائق الغامضة ، ظفذعاً ومروعاً وصادماً ، حينما تتوالى الإخبارات التي تكشف تفاصيل الحوادث ، وكان ما يجمعها كلها ، هو خيط واحد هو خيط الغرابة واللا منطقية ، فقد كانت حوادث مستحيلة الترتيب الطبيعي ، فالقاتل عادة ما كان يقوم بقتل المقربين منه أو أحياناً يقتل أحبابه ، أو أصدقائه أو أولاده !! وأحياناً فقد كان القتل يتم عشوائياً وبالمصادفة ، وكانت الحرائق غامضة ، وبسبب وبلا سبب ظاهر من وراء حدوثها .
بعد أن زاد ظني في أنه ، ربما يكون قد رتب لنفسه اختفاءً ؛ وتغييراً في شكله وشخصه ، لكي يمارس ألعابه الخفية ، تحت زعم أنه ميت ، وأنه هو تحديداً وببصمة معرفتي شبه التامة به ، وأنه هو على الأرجح ضمن مخطط القتل والانتحار والحرائق الغامضة ، فقد صرت أنا نفسي أخشي على نفسي منه ، ذلك القاتل المجرم الميت المنطلق .
وما عدت أصدق أي كلام كان قد قاله ليّ الآن ، وقد كنت أصدقه وقت أن قاله ، فقد كان قد عاهدني مرة حين صارحته حين كان في قمة صعوده في وظائفه ، ولم يكن معروفاً نشاطه إلا في نطاق ضيق ، وكنت ألم بنشاطه وحينها صارحته بأنه أصبح لا يتورع عن فعل أي شيء ، حتى إزاء المقربين منه ، أو الذين لم يبادلوه عداوة أبداً .
وقد قال ليّ وقتها :
” أعدك أن لا أصيبك بأذى أبداً ، حتى لو صدرت ليّ التعليمات بذلك ، وعد شرف ؛ ولكن سوف أحذرك التحذير النهائي الذي لا تتمادى بعده مطلقاً ، فإن فعلت ؛ فأنت الذي اخترت نهايتك بإرادتك ، ولست أنا ، وليس من بيده إصدار الأمر ” .
وواصل بتأكيد الثقة في نفسه وفي سيطرته على مجال عمله :
” نحن الآن في مرحلة التطهير من أجل البناء الصحيح ، وكل شيء مباح ، وجائز ومشروع ؛ من أبسط الشتائم والإهانات ؛ وحتى التشويه والقتل ، والجريمة الجماعية ” .
وبعدها سرح طويلاً قبل أن يفاجأني بقوله :
” لقد قتلت قلبي حتى لا يوجعني ، قتل أحداً ، أو تدمير أحد ، أو تدمير أي شيء . لقد قتلت قلبي أنا ؛ حتى لا أحتاج لأحد ، ولقد قتلت مشاعري حتى أصبر كفئاً فاعلا ناجحاً في عملي ، فأظل في الخدمة ، أطول فترة ممكنة ليّ وأنا مطلوب ، ىا مفروض على الخدمة من أي أحد ، فيبقيني عملي دائماً في الخدمة ” .
( الجزء الثالث )
في لحظات صدق كثيرة بيني وبين نفسي عندما أسترجعه ، واسترجع حياته قبل اختفائه ، ثم بعد اختفائه ، ثم حدوث الجرائم غير العادية التي ضربت البلد كلها بعد انتحاره ، أمام عيني ، وبقاؤه حياً بعد انتحاره ؛ بوجود بصمته الشخصية التي أميزها ، وأستطيع أن أميزها في كل ما كان حولي من جرائم وانتحار وحوداث حرق غامضة ، ونهايات غريبة وغير متوقعة ، في لحظات صدق لنفسي ؛ فقد اعترفت لنفسي بأنه قد خادعني كثيراً ، وقد أنساني إلى حد كبير ؛ أنه “الضابط ” وأنه الأمني القح والمخابراتي المحترف ، وقد خادعني واعتبر نفسه في عدم معارضة مني أو مناقشة ، بل وبتسليم مني ، اعتبر نفسه : الضابط الصالح ، وأنه الإنسان الأمني ، كما يجب أن يكون ” مواطناً ” حامياً لمجتمعه وشعبه ودولته ، وأن ما ينفذه هو نمط فريد من الشخصية الأمنية الإنسانية المنضبطة ، بأن يكون المواطن حامياً لأمنه الشخصي ، بأن يحمي نفسه أولا ، وأن يحمي الآخرين ؛ فيحمي بذلك كل الآخرين في كل العالم ، ويحمي بذلك كل المواطنيين داخل دولته .
كنت أتخيل أنه يشركني في مشروعه هذا ، وفي عمله بتلك المنهجية ، بل كنت أتصور ، وأتخيل : أني أصوغ له إطاره الفكري ومساحة ” الأنسنة” لعمله الأمني سيء السمعة دائماً .
ووفق دوري هذا في حياته وفي عمله ؛ فكان كثيراً ما صارحني بخفايا من عمله ، دون تحرج أو خوف مني ، بل كان يظن صدقاً كما بين ليّ كثيراً ، بأني طبيبه النفسي الذي يحدث له التوازن ، دون أن يأخذ منه لقاء ذلك أجراً .
كنا قد اتفقنا معاً ، وهو قد قبل مني هذا الطرح النظري والفكري ذلك ، بأن هناك حَد مقفل دون الإنطلاق الأمني في العمل . وأن العمل الأمني والعمل المخابراتي والأمن والمخابرات عموماً ، من أجل الدولة ؛ لا من أجل الحاكم ، وأن حماية الحاكم يدخل في إطار عمل أجهزة الأمن القومي وأجهزة الأمن ، ويدخل فقط في مجتمع المخابرات من ناحية أن الحاكم مدير للسلطة وأن حماية الحاكم وهو في هذه الوظيفة مرهون بالوجود الشرعي له في الوظيفة . فالحاكم رئيس للحكم ومدير للسلطة ، يعمل في قمة إدارة الدولة ؛ يعمل لفترة زمنية سوف تنتهي وليس حكماً مطلقاً خلال فترة مطلقة أو أبدية قرينة حياة الحاكم .
في فترة التضليل التي مارسها على كل من حوله ، وأنا أولهم ، ليرسم لنفسه صورة أخرى مغايرة لصورة الضابط المغامر المتهور في ممارساته المتهورة ، والذي يستغل الجهاز الأمني الذي كان يعمل به ، وكان يقول ؛ وربما كان يقول كاذباً ، كما أصبحت أتبين الآن :
” على خيط القدر الرفيع جداً والحاد القاطع بمجرد لمسه ؛ أمشي ؛ أسفلي هوة الحياة ، لو سقطت ضاع ما مضى من عمري وعملي ، وصرت رماد محترق ، ففي هوة الحياة أكثر من بركان ، أكثر من بركان يتلقف الذين سقطوا من علو ارتفاع خيط القدر ” .
وكأنه كانت تطارده الصورة المثلى للإنسان ، وليس الصورة المثلى فقط لرجل الأمن والمخابرات . كانت تطاره الصورة المثلى التي يجب أن يكون عليها في نظره هو ، ولو شابها منه كثير من الإدعاء ، وكان يرغب الصورة المثلى في نظر الآخرين ولو شابها الكثير من الوهم ، كان هو من يغذيهم به ، بطريقة خفية وبشكل مستتر .
محمد الصباغ