رؤي ومقالات

إبراهيم نوار يكتب :لا حياد في ارتكاب الجريمة

رسم تقرير فرانشيسكا ألبانيزي خريطة لتورط شركات ومؤسسات محلية و أجنبية، أولا في تمكين الاحتلال داخل الضفة وغزة، ثم المشاركة في حرب الإبادة من خلال أنشطة كثيرة توزعت على محاور أساسية تتعلق بالتسلح، والاستيطان، والسيطرة على الموارد، والمراقبة الإليكترونية، والتهجير، والهدم والبناء، والطاقة، والتمويل، والتجارة، وغيرها من الأنشطة الممتدة والمترابطة التي تعزز السيطرة الصهيونية الاقتصادية والطبيعية والبشرية على الأرض المحتلة، سواء في مرحلة الاحتلال أو في مرحلة الإبادة. و لا يزال عدد كبير جدا من الكيانات المؤسسية المؤثرة مرتبطا ماليا بالفصل العنصري والعسكرة الإسرائيليين. وتُعدّ شركتا “بلاك روك” و “فانغارد” من أكبر المستثمرين في شركات الأسلحة التي تُعدّ محور ترسانة إسرائيل العسكرية المستخدمة في الإبادة. وقد غطّت بنوك عالمية كبرى سندات الخزانة الإسرائيلية، التي موّلت الدمار، واستثمرت أكبر صناديق الثروة السيادية والمعاشات التقاعدية في الأموال العامة والخاصة في اقتصاد الإبادة الجماعية، مع ادعاء احترام المبادئ الأخلاقية. و حققت شركات الأسلحة أرباحا قياسية من خلال تزويد إسرائيل بأسلحة متطورة دمرت سكانًا مدنيين عُزَل. و لعبت معدات وآليات شركات معدات البناء العالمية العملاقة دورا محوريًا في تدمير غزة، ومنع عودة الحياة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه توفر تكتلات الطاقة الاستخراجية والتعدين مصادر للطاقة المدنية، فقد غذّت شركات مثل “بي بي” البريطانية و “شيفرون” الامريكية البنى التحتية العسكرية والطاقة في إسرائيل – وكلاهما يُستخدم لخلق ظروف معيشية مصممة لتدمير الشعب الفلسطيني. وتستمر الجامعات في جميع أنحاء العالم، متخفية وراء ستار الحياد البحثي، في الاستفادة من اقتصاد يعمل الآن في وضع إبادة جماعية لشعب بأكمله.
في الواقع، تعتمد هذه الكيانات هيكليا على التعاون والتمويل الاستعماري الاستيطاني. ببساطة يستمر العمل كالمعتاد، لأنه لا شيء في هذا النظام بقى محايدا. لقد حوّل المحرك الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي الدائم للرأسمالية العنصرية اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي القائم على التهجير والاستبدال إلى اقتصاد إبادة جماعية. هذا “مشروع إجرامي مشترك، حيث تُسهم أفعال شخص واحد في نهاية المطاف في اقتصاد كامل يُحرّك هذه الإبادة الجماعية ويُموّلها ويُمكّنها. و تُشكّل الكيانات المذكورة في هذا التقرير جزءًا بسيطًا من هيكل أعمق بكثير من تورط الشركات، التي تتربّح من الانتهاكات والجرائم في الأرض الفلسطينية المحتلة وتُمكّن إسرائيل من الاستمرار فيها. واليوم، أصبح مطلب المساءلة أكثر إلحاحًا: فلا يجب استمرار أي نظام يُديم تلك الجرائم الدولية الخطيرة. وفيما يلي عرض لبعض الأمثلة التي خاض التقرير في تفاصيل علاقاتها مع حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
شركات السلاح
طور مصنعو الأسلحة الإسرائيليون والأجانب أنظمة متزايدة الفعالية لطرد الفلسطينيين من أراضيهم. وشمل ذلك تطوير تقنيات تمكّن إسرائيل من تكثيف القمع والتدمير. وقد وفر الاحتلال والحملات العسكرية المتكررة أرضا خصبة لاختبار القدرات العسكرية المتطورة مثل منصات الدفاع الجوي، والطائرات بدون طيار، وأدوات الاستهداف التي تعمل بالذكاء الاصطناعي. وبعد تجربة هذه المنتجات على الفلسطينيين في الأرض المحتلة، يتم تسويقها خارجيا على أنها “مُجرّبة في المعارك”. ولهذا فإن المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي يمثل العمود الفقري الاقتصادي للدولة. و بين عامي 2020 و2024، أصبحت إسرائيل ثامن أكبر مُصدّر للأسلحة في العالم، بفضل صادرات أكبر شركتين للصناعات العسكرية هما “إلبيت سيستمز” و “الصناعات الجوية الإسرائيلية”، وهما من بين الشركات الخمسين الأكبر في العالم في هذا المجال. وتستفيد إسرائيل دوليا من أكبر برنامج مشتريات دفاعية على الإطلاق – وهو برنامج إنتاج الطائرة إف-35 المقاتلة الذي تقوده شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، إلى جانب عشرات الشركات الأخرى، منتشرة في عدد من الدول حول العالم، منها شركة الصناعات العسكرية الإيطالية “ليوناردو إس بي إيه”، وهي إحدى الشركات الرئيسية الموردة للسلاح الى الدول العربية. و بعد أكتوبر (تشرين الأول) 2023، استخدمت إسرائيل طائرات إف-35 وإف-16 لإسقاط ما يقدر بنحو 85000 طن من القنابل معظمها عشوائية، لقتل وإصابة أكثر من 179411 فلسطينيا ومحو غزة من على وجه الأرض. كما كانت الطائرات بدون طيار والطائرات السداسية والرباعية المروحيات آلات قتل موجودة في كل مكان في سماء غزة. وقد حلقت الطائرات بدون طيار التي طورتها إلى حد كبير شركة “إلبيت سيستمز” وشركة “الصناعات الجوية الإسرائيلية” إلى جانب الطائرات المقاتلة لفترة طويلة، حيث قامت بمراقبة الفلسطينيين وتقديم معلومات استخباراتية عن الأهداف. وفي العقدين الماضيين، تم تطوير الطائرات بدون طيار بدعم من مؤسسات مثل “معهد ماساتشوستس” للتكنولوجيا في الولايات المتحدة.
شركات التكنولوجيا
تستخدم تكنولوجيا المعلومات والمراقبة الالكترونية على نطاق واسع في قمع الفلسطينيين آليا بشكل متزايد. وتوفر شركات التكنولوجيا بنية تحتية مزدوجة الاستخدام (مدني/عسكري) تقوم بجمع ودمج البيانات الجماعية والمراقبة، مع الاستفادة من استخدام الأرض الفلسطينية المحتلة ساحة اختبار للتكنولوجيا العسكرية. وتلعب شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة دور المحرك الرئيسي في هذه العمليات من خلال فروعها، ومراكز البحث والتطوير التابعة لها في إسرائيل. وقد أدت ادعاءات إسرائيل بالاحتياجات الأمنية من أجل “الدفاع عن النفس” إلى ابتكار تكنولوجيا ومعدات غير مسبوقة في إدارة السجون والمراقبة، من شبكات الدوائر التلفزيونية المغلقة (CCTV)، والمراقبة البيومترية، وشبكات نقاط التفتيش التكنولوجية المتقدمة، و”الجدران الذكية”، والمراقبة بالطائرات بدون طيار، إلى الحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات التي تدعم التخطيط العسكري الاستراتيجي والعملياتي. وفي الواقع العملي تنمو شركات التكنولوجيا الإسرائيلية من داخل البنية التحتية العسكرية. ومن الأمثلة على ذلك مجموعة NSO، التي أسسها أعضاء سابقون في الوحدة 8200 الاستخبارية فيما يتعلق بتطوير برنامج التجسس Pegasus الخاص بها، المصمم لعمليات سرية و مراقبة الهواتف الذكية. وقد استُخدِم هذا البرنامج ضد النشطاء والقادة والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. و يتم تصدير هذه البرامج بموجب قانون مراقبة الصادرات الدفاعية. و تعتبر شركة IBM التي تعمل في إسرائيل منذ عام 1972، أحد الأذرع المهمة في تطوير القدرات التكنولوجية الإسرائيلية في مجالات الرقابة وتصنيف المعلومات والتجسس، حيث تقوم بتدريب أفراد الجيش والمخابرات – وخاصة من الوحدة 8200. و منذ عام 2019، قام فرع الشركة في إسرائيل بتشغيل قاعدة البيانات المركزية لهيئة السكان والهجرة وتحديثها، ما يتيح جمع وتخزين واستخدام البيانات البيومترية عن الفلسطينيين من قبل الحكومة، واستهدافهم في أي مكان.
المعدات الثقيلة لخدمة التدمير
تعتمد العمليات العسكرية الإسرائيلية بشكل كبير على المعدات من الشركات المصنعة العالمية العملاقة “لإخراج” الفلسطينيين من أراضيهم وهدم المنازل والمباني العامة وتدمير الأراضي الزراعية والطرق وغيرها من البنية التحتية الحيوية. منذ أكتوبر 2023، كانت هذه المعدات جزءًا لا يتجزأ من إتلاف وتدمير 70 في المئة من المباني و81 في المئة من الأراضي الزراعية في غزة. و على مدى عقود، زودت شركة “كاتربيلر” الأمريكية إسرائيل بمعدات تُستخدم في هدم المنازل والبنية التحتية الفلسطينية من خلال برنامج التمويل العسكري الأجنبي للولايات المتحدة. وبالتعاون مع شركات اخرى محلية وأجنبية حولت إسرائيل جرافة “كاتربيلر دي 9 ” إلى سلاح أساسي آلي يتم التحكم فيه عن بعد، تم استخدامه في كل نشاط عسكري تقريبا منذ عام 2000، لفتح الطرق، وهدم البنايات، من إجل التوغل وقتل الفلسطينيين. و قد تم منذ أكتوبر 2023، توثيق استخدام معدات “كاتربيلر” لتنفيذ عمليات هدم جماعية، بما في ذلك المنازل، والمساجد، والبنية التحتية الداعمة للحياة، مثل مداهمة المستشفيات، ودفن الجثث في مقابر جماعية.
كما يغطي التقرير مجالات أخرى تتداخل مع ظروف الحياة اليومية للفلسطينيين، وتجعل الحياة مستحيلة لأصحاب الأرض، بينما تسهل للمستوطنين التربح من حرب الإبادة. من ذلك
شركات العقارات التي تنشط في بيع وحدات سكنية في المستوطنات لمشترين إسرائيليين وأجانب . ومن أبرز تلك الشركات مجموعة العقارات العالمية “كيلر ويليامز ريالتي ذ.م.م”، التي تملك امتيازا في اسرائيل يعمل من خلال 160 فرعا في المستوطنات. وشركات الطاقة ومصافي النفط التي تزود الجيش الاسرائيلي بوقود الطائرات والدبابات. وشركات الإنتاج الزراعي التي تعمل في مجال زراعة الأراضي الفلسطينية المصادرة مثل شركة “تنوفا” التي تعتبر أهم الشركات التي تعمل في مجالات الأنشطة الزراعية غير القانونية. “تنوفا” هي أكبر تكتل غذائي في إسرائيل، وهي مملوكة حاليا بحصة الأغلبية لشركة “برايت فود الصينية المحدودة”. كذلك تتولى سلاسل تجارية عالمية تسويق منتجات المستوطنات الإسرائيلية في كل أنحاء العالم تقريبا. و تُخفي هذه الشركات منشأ المنتجات من خلال ملصقات مضللة ورموز باركود وخلط سلاسل التوريد. ويعتبر تسويق منتجات المستوطنات بهذه الطريقة هو الوجه الآخر لتسويق الاحتلال كما يقول التقرير. و تُعدّ شركات الخدمات اللوجستية العالمية العملاقة مثل “أ. ب. مولر – ميرسك أ/س” جزءًا لا يتجزأ من هذه المنظومة؛ فقد شحنت لسنوات بضائع من المستوطنات والشركات المدرجة في قاعدة بيانات مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مباشرةً إلى الولايات المتحدة وأسواق أخرى. كما لا يغفل التقرير دور شركات السياحة في تنظيم السفر إلى المستوطنات، وترويج الاستيطان غير الشرعي، ودور البنوك وصناديق الاستثمار العالمية في تمويل سندات الخزانة الإسرائيلية والمشاركة في منح قروض للشركات والمؤسسات العاملة في مجالات إبادة الهوية الفلسطينية.
(من مقالي في صحيفة القدس العربي الذي اتناول فيه تقرير المسؤولةالأممية عن ملف حقوق الإنسان والإغاثة الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى